{سورة التوبة مدنية، الآيات : 38}

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}.

ملخص معاني الآية:

فيها تنبيه على التهاون في الجهاد... الأمراض التي تمنع من الجهاد.. وعلاجها.

تنبيه:

فيها خطاب للمؤمنين، وتنبيه على التهاون في الجهاد، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}.

الأمراض التي تمنع من الجهاد:

أرضيتم بالحياة الدنيا وملذاتها الزائلة من الآخرة. (دلّ على أن الأمراض المانعة من الجهاد حب الدنيا، يبتعد عن الجهاد كل من ينسى الآخرة ويعتبر الدنيا أهم من الجميع).

علاج المرض:

عباد الله.. ما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، وهل من المعقول الاهتمام بلذات الدنيا الفانية والتغافل عن نعيم الآخرة الباقية؟ هذه تجارة خاسرة، ما نسبة لذات الدنيا أمام لذات الآخرة إلا كقطرة ماء في بحر.
وعلاج المرض أن تجعلوا الآخرة غاية حياتكم، وقدّموا فكر الآخرة على فكر الدنيا، والحاصل أن الآية أشارت إلى ثلاثة أمور: (1) الجريمة: التباطؤ في الخروج للجهاد جريمة (2) سبب الجريمة: مرض حب الدنيا (3) علاج المرض: فكر الآخرة.

المناسبة بين الآيات:

(1) كان الغرض من الآيات السابقة التوجيه إلى قتال أهل الكتاب، والآن يذكر الغزوة التي قاتل فيها أهل الكتاب. (التفسير الفرقان)
(2) في هذه الآية (رقمها 38) تحريض المؤمنين على غزوة تبوك، في الركوع الأسبق من هذا الركوع الذي قال فيه: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر..} وفيها تحريض على قتال أهل الكتاب، أما الآيات البينية ذات الموضوعات الفرعية فقد سبقت الإشارة إلى مناسباتها، كأن جميعها تمهّد الطريق للركوع الحالي، وهو تمهيد لغزوة تبوك. (التفسير الحقاني)
(3) المروي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك. (التفسير الكبير)
(4) في الآيات السابقة ذكر عيوب الكفار وجرائمهم، والآن يحرّض على قتالهم.
اعلم أنه تعالى لمّا شرع معايب هؤلاء الكفار وفضائحهم عاد إلى الترغيب في مقاتلتهم. (التفسير الكبير)
ثم أشار إلى النكتة المهمة التالية:
وتقرير الكلام أنه تعالى ذكر في الآيات السابقة أسبابا كثيرة موجبة لقتالهم الخ.
كما ذكر الفوائد التي تحصل من القتال .. {يعذبهم بأيديكم ويُخزهم وينصركم} ثم ذكر أقوالهم الباطلة وسلوكياتهم السيئة، وعند توفر كل هذه لا شيء يمنع المؤمن من القتال إلا الخوف من القتل والموت، وترجيح الحياة الدنيا على الآخرة، ففي هذه الآية أكّد الله تعالى على أنه ليس بسبب معقول، لأن سعادة الدنيا مقارنة بسعادة الآخرة كمقارنة قطرة ماء ببحر، ومن الجهل والغباء المحرومية عن هذه السعادة العظيمة فراراً من ألم حقير.

تحريض شديد على الجهاد:

في الآية الحاضرة تحريض شديد للمؤمنين على القتال، وأشار إلى أن الرضا بالحياة اليسيرة والتخلي عن الجهاد بمثابة الهبوط من العلو إلى السفل، فملذات لا قيمة لها في نظر المؤمن مقارنة بملذات الآخرة، وجاء في الحديث أن الدنيا لو كانت تزن عند الله جناح بعوضة لما أعطى الكافر منها شُربة. (التفسير العثماني)

سر حياة المسلمين في الجهاد:

«لقد قررت جماعة من النصارى القضاء على المسلمين، وما للمسلمين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله دفاعا عن مركز الإسلام اثّاقلوا إلى الأرض، مع علمهم بأن سر حياة المسلمين في الجهاد ... {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما الحياة الدنيا من الآخرة إلا متاع الغرور.
وفي الحديث: ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم، فلينظر بم ترجع وأشار بالسبابة. (التفسير الفرقان)

ماساة الفكر المنير:

«إن ثواب الآخرة أغلى ما يدعو الأمة ويبعثها على العمل، كما ظهر ذلك بكثير من آيات القرآن، وللأسف الشديد فإن أصحاب الأفكار المنيرة جعلوا الباعث الأقوى والسبب الأقوى أضعف ما يمكن، وباتوا يطمعون على جميع الأشياء، من التطور المادي والحرية الشخصية والفلاح والسعادة المالية، إلا ثواب الآخرة الذي يتحاشون عن ذكره. (التفسير الماجدي)
{اثّاقلتم إلى الأرض} المراد الذي ذكرناه في الخلاصة، لاحظوا تأييده في عبارة المدارك التالية:
أي ملتم إلى الدنيا وشهواتها وكرهتم مشاق السفر ومتاعبه أو ملتم إلى الإقامة بأرضكم ودياركم. (المدارك)

غزوة تبوك وستة أصناف من الناس:

توصل صاحب بيان القرآن بعد التحقيق إلى أنه لمّا اُذن بالخروج لغزوة تبوك انقسم الناس على ستة أصناف:
(1) الذين استعدوا على الفور، بدون أي تردد.
(2) الذين ترددوا في بادي الأمر، ثم أصلحوا وخرجوا.
هذان الصنفان ذكرهما الله تعالى في قوله: {الذين اتبعوه في ساعة العسر من بعدما ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم} (التوبة 117).
(3) الذين منعهم عذر حقيقي، فتخلفوا. ذكرهم الله تعالى في قوله: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} التوبة 91).
(4) الذين تخلفوا عنها تكاسلا وليس نفاقا، واعترفوا بذنوبهم بعد العودة، ذكرهم الله في الآيات التالية:
{وآخرون اعترفوا بذنوبهم} الآية (التوبة 102)
{وآخرون مُرجَون لأمر الله} الآية (التوبة 106)
{وعلى الثلاثة الذين خُلّفوا} الآية (التوبة 118)
(5) المنافقون الذين عجزوا عن إخفاء نفاقهم في ساعة العسرة، ولم يشاركوا في الغزو، نزلت بشأنهم آيات كثيرة.
(6) المنافقون الذين شهدوا الغزو للتجسس والفساد بين الناس، نزلت بشأنهم آيات كثيرة، منها:
{وفيكم سمّاعون} الآية (التوبة 47) (في أحد الأقوال التفسيرية)
{ولئن سألتَهم ليَقولنّ} الآية (التوبة 65)
{وهَمُّوا بما لم ينالوا} الآية (التوبة 74)
وقال بعدما ذكر الأقسام المذكورة : الآية 38 مرتبطة بالصنف الرابع، الذين تخلفوا عن الغزو تكاسلا. (مفهوم بيان القرآن)
والمعنى أن الآية ومفهومها عام، لكن مخاطبيها الأوائل هم أولئك الذين تخلفوا عن غزوة تبوك تكاسلا، وعلى العموم انتهج القرآن نهجا مختلفا، وهو توجيه الدعوة بلفظ قوي، ليتصلب العاملون، وليُصلح الكُسالى أحوالهم. (والله أعلم بالصواب)
ثم كتب بعدما دفع التحقيق المذكور إلى الأمام:
الآيات التي سبق ذكرها (الآية 38 وما بعدها من سورة التوبة) مرتبطة بأولئك الذين تخلفوا عن غزوة تبوك تكاسلا وتهاونا بعد عذر شرعي، وقد نبههم على ما فعلوا في الآية الأولى، ثم أشار إلى سبب المرض وعلاجه، ومن خلال ما ذكر اتضح أن خصوص الآية بقصة لا يمنع عموم مفهومها، وقد توصلنا إلى أن التهاون والتكاسل في أمور الدين وحب الدنيا أم الأمراض ورأس الخطايا والذنوب، حيث قال النبي ·:
«حب الدنيا رأس كل خطيئة».
وبعد تحديد المرض أشار إلى علاجه، فقال: {فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل}.
وملخصها أن هَمَّ الآخرة ينبغي أن يكون الهمّ الأكبر، وهو العلاج الأوحد والأهم والأكمل لجميع الأمراض، والوصفة المتميزة للقضاء على الجريمة. تتبنّى عقائد الإسلام على ثلاثة أصول: التوحيد، والرسالة والآخرة... فعقيدة الآخرة روح إصلاح العمل وحاجز حديدي دون الذنوب والمعاصي والجريمة. (معارف القرآن)

مسألة شرعية:

ومن هذه الآية استنبط الفقهاء مسألة مهمة، وهي وجوب النفير على الجميع عند الاستنفار.
«اقتضى ظاهر الآية وجوب النفير على من لم يستنفر».(جصاص) (التفسير الماجدي)

إهداء إلى طلبة العلم الخاص:

لقد كتب الإمام الرازي عبارة مفعمة بالحماس بشأن الآية، يُرجى مراجعة التفسير الكبير للاطلاع عليها، كما أنه كتب بشأنها:
«اعلم أن هذه الآية تدل على وجوب الجهاد في كل حال». (التفسير الكبير)
والمعنى أن وجوب الجهاد لا يقتصر على وقت هجوم العدو، بل يبقى فرضاً على الكفاية في الأحوال كلها، أما عند مهاجمة المشركين فيصير فرضاً على الأعيان، والقرطبي كتب تفاصيلها مبرهنة في كتابه. ثم إن المسلمين في غزوة تبوك لم يتعرضوا لأي هجوم على يدي العدو، بل خرجوا بأنفسهم لمحاربة العدو، إنما بلغهم عن استعداد الروم والشاميين لمهاجمة المسلمين، فخرجوا إليهم، وفيها درس عظيم للمسلمين. (والله أعلم بالصواب)

لم يورّي النبي   · في غزوة تبوك:

قال النسفي:
وقيل: ما خرج رسول الله · في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدّة. (المدارك)
ومثله ما قال المظهري بلفظه:
قال البغوي: لمّا رجع النبي · من الطائف أمر بالاستعداد لقتال الروم، وقال محمد بن يوسف الصالحي: كان عام شدة وعسر وحر لمّا أراد النبي · محاربة الروم، والأرض يابسة، وقد حان وقت الحصاد، فالثمار نضجت، وكان الناس يحبون البقاء بالمدينة لتعهد الثمار والاستظلال بالظل، وقد ثقُل عليهم الخروج، وكان النبي · إذا أراد سفرا ورّى بغيره، وأشار إليه بالكناية، إلا في غزوة تبوك، فإنه صرّح فيها عن وجهه، لأنه استقبل سفرا طويلا، وعدواً كثيرا، لذلك صرّح باسم الجهة التي يريدها ليتأهب الناس أهبة الغزو. هذا كما ذكره كعب بن مالك فيما أخرجه عنه ابن أبي شيبة والبخاري وابن سعد، بزيادة يسيرة، وهي أن النبي · طلب المشاركة في الغزو من قبائل العرب القاطنة بالقرب من المدينة، كما أرسل إلى أهل مكة، فكثر الناس وزاد عددهم.

فائدة:

التورية «تدبير عسكري حربي» مهم جدا، وليس فيها شيء من الكذب، أما عن وجه إيراد الحديث هنا فللتعريف بأهمية الجهاد، فلو عرفوا كيف استعد النبي ·، وأدركوا مدى اهتمام الرسول · بالتدابير العسكرية، وأنه كان قائدا عسكرياً فذًّا، متضلعاً بفنون الحرب. فينبغي لأمته أن يتحلوا بتلك الصفات، ويولوا الجهاد وما يتعلق به اهتماما خاصا. (والله أعلم بالصواب)