{سورة الحج مدنية، الآية 38}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) }.
ملخص معاني الآية:
(1) الوعد بنصر الله.
(2) الوعد بالإذن بالجهاد.
(3) البشارة بغلبة الإسلام وفتح مكة.
(4) الخيانة وكفران النعمة من أسباب الهزيمة والندامة.
(5) ينصر الله المؤمنين في الجهاد نصراً مؤزّراً متتالياً.
وجوه الارتباط بين الآيات:
عدد من المفسرين ربطوا هذه الآية بالآية 25، وقد جاء فيها أن المشركين يصدون المسلمين عن سبيل الله والمسجد الحرام، وأشار فيها إلى قصة صلح الحديبية، ثم ذكر أحكام الحج والأضحية، ثم هذه الآية التي وعد فيها بالنصر المؤزّر بحيث تقضي على شوكة أولئك المشركين الذين صدّوا المسلمين عن المسجد الحرام. وذلك بطريق الجهاد في سبيل الله، حتى يحرّروا المسجد الحرام عن أسر الكفار والمشركين، ويسوده الأمن والاستقرار.
قال الإمام أبو حيان رحمه الله:
«ومناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج، وكان المشركون صدوا رسول الله · عام الحديبية، وآذوا من بمكة من المؤمنين، أنزل الله تعالى هذه الآيات: مبشرة المؤمنين بدفعه تعالى عنهم ومشيرة إلى نصرهم، وإذنه لهم في القتال، وتمكينهم في الأرض بردهم إلى ديارهم وفتح مكة». (البحر المحيط)
البشارة بغلبة الإسلام:
كانت بداية الحديث بآية:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (الحج 25).
أي إن الكفار يصدون المسلمين عن المسجد الحرام، ثم يطمّن المسلمين فيقول لا تزعموا بعدما سمعتم من الأحكام أن هيمنة هؤلاء المشركين المانعين سوف تستمر إلى ما لا نهاية، بل سوف يأتي وقت يحج فيه المسلمون ويعتمرون ولا يخافون أحدا إلا الله، وسيطرد المشركين عن طريقهم. يا أيها الذين آمنوا.. لا تحسبوا من سيطرة المشركين على مكة أنهم محبوبون عند الله، بل هم مبغوضون ومعتوبون عنده، إذ هم تائهون في الكفر والخيانة، إنما أمهلهم الله تعالى لحكمة أرادها، فلا تجزعوا، فسوف يبعدهم الله عن طريقكم وينصر المؤمنين، ويغلبهم على المشركين، كما وعد بذلك في قوله: {إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا} (المؤمن 51) فهذه الآية تُبشّر بغلبة الإسلام، والآية السابقة تتمة لقوله تعالى {وبشّر المحسنين}. والله سبحانه وتعالى أعلم» (معارف القرآن للشيخ الكاندهلوي).
فيها وعد بالإذن بالجهاد:
قال الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله:
وطريق النصر هذا مذكور في الآية اللاحقة. (بيان القرآن)
أي إن النصر الذي وعد به الله في هذه الآية الكريمة، ذكر طريقها في الآية اللاحقة، وفيها أذن بالجهاد.
والسؤال هنا أن هذه الآية أشارت إلى وقعة الحديبية، وقصة الحديبية وقعت سنة ست من الهجرة، وقد مضت على فرضية الجهاد سنوات، وخاض المسلمون العديد من الغزوات، فما معنى الإشارة إلى الإذن بالجهاد في هذه الآية؟ والرد عليه سوف يأتي أثناء تفسير الآية اللاحقة في ألفاظ التهانوي رحمه الله تعالى.
بيان آخر للآية الكريمة:
بعض أهل العلم قالوا: هذه الآية مكية، وأضافوا: لمّا آذى المشركون المؤمنين، أراد بعض المسلمين أن يقتلوا المشركين بالحيل والتدابير، فنزلت هذه الآية ونهتهم عن القتل بالغدر والحيلة، وأشارت إلى أن الإذن بالجهاد سوف ينزل.
قال القرطبي رحمه الله:
«رُوي أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، وأراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية إلى قوله {كفور} فوعد فيها سبحانه بالمدافعة، ونهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر» (القرطبي).
النصر المؤزّر والمكرر:
{يدافع} يدفع الله شر الكفار وأذاهم عن المؤمنين، في كلمة {يُدافع} مبالغة وتكرار، أي إن الله سينصر نصرا مؤزراً ومكررا.
«وصيغة المفاعلة إما للمبالغة أو للدلالة على تكرار الدفع.. أي إن الله تعالى يبالغ في دفع غائلة المشركين وضررهم الذي من جملة الصد عن سبيل الله تعالى والمسجد الحرام مبالغة من يغالب فيه أو يدفعها عنهم مرة بعد مرة أخرى حسبما يتجدد منهم القصد إلى الإضرار بهم كما في قوله تعالى: {كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله} (المائدة 64) (روح المعاني).
الخيانة والكفران من أسباب الهزيمة:
قال الله تعالى في آخر الآية: {إن الله لا يحب كل خوّان كفور}.
قال المفسرون: هذه الجملة علة لما سبق من الكلام، فبما أن الكفار والمشركين خونة كفرة، لذلك يتغلب عليهم المسلمون.
قال النسفي رحمه الله:
«ثم علل ذلك بقوله {إن الله لا يحب كل خوّان} في أمانة الله كفور لنعمة الله، أي لأنه لا يحب أضدادهم وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها». (المدارك)
وفي أنوار البيان:
«ما من مشرك وكافر إلا خائن، إذ ينبغي عليه أن يعبد خالقه ومالكه، ويستسلم لدينه الذي أرسله، لكنه لا يفعل ذلك، إنه خائن كبير، وبالمناسبة ذكر صيغة المبالغة «خوّان»، و «كفور» لا يشكر ربه، خلقه ربه، لكنه يعبد غيره، ويدين لما اختلقه الناس، فعمله هذا في الواقع أكبر كفران لربه، يستفيد من نعمته ثم ينحرف عن دينه إلى غيره، لذلك لا يحبه الله، المشرك والكافر مبغوض عند الله، سينهزمون، ويتغلب عليهم المؤمنون». (أنوار البيان)
كلام بركة:
وهذا ما قاله الشاه عبد العزيز رحمه الله تعالى أن في هذه الآية بشارة بالجهاد، لاحظوا فيما يلي نص ما قاله:
«اُمر المسلمون بالصبر على أذى المشركين مادام النبي · بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمر بالمعاقبة بالمثل، وهكذا بدأ الجهاد، ثم أمر به في الآية اللاحقة. (موضح القرآن).
صدق القرآن:
نزلت هذه الآية الكريمة عندما كان المشركون يسيطرون على مكة سيطرة كاملة، ولم يكن في حسبان أحد أن بإمكان المسلمين تحريرها من براثن الكفر والشرك، ويقدروا على التنقلات الحرة الآمنة فيها. فالقرآن لاشك أنه كلام الله تعالى الذي يعد بالنور في الظلام الحالك، وقد أنجز ما وعد، رأت الدنيا ذلك بعيونها. قال الماجدي :
«إن عصر نزول الآية واكب حكم دولة الشرك المكية الغالبة والمتحكمة على مجاري الأمور فيها، وأن المسلمين فيها كانوا يمثلون أقلية متواضعة عديمة الحيلة». (الماجدي)
الدفاع في الجهاد:
كان المسلمون يتعرضون لأذى المشركين وبطشهم، فنزلت هذه الآية وقالت: {إن الله يدافع عن الذين آمنوا} ثم أمر بالجهاد للإشارة إلى أنه لا سبيل إلى إنهاء سيطرة المشركين وغلبتهم ولا الوقاية من شرهم إلا الجهاد، ينزل فيه نصر الله الخاص، فالواجب على المسلمين أن يعملوا بهذه الآية لجني تلك الثمار التي جناها المسلمون الأوائل، والقرآن كتاب حي، والترتيبات التي منحها نافعة إلى يوم القيامة، فالمسلمون اليوم يتأذون من غلبة المشركين وشرهم وسلطانهم. فهذه الآية والتي تلتها تعلمهم طريقة الحرية. (والله أعلم بالصواب)