{سورة محمد مدنية، الآيات 4، 5، 6}



{بسم الله الرحمن الرحيم}
{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)}.
ملخص معاني الآية:
تظل المعركة بين الحق والباطل للأبد، فإذا احتدمت المعركة بين المسلمين والكافرين، فعلى المسلمين تسخير كافة قواهم وكامل شجاعتهم لتوجيه ضربة قاسية إلى الباطل ليدمغه حتى يزهق، بهلاك أبطاله وشجعانه، وبتفريق جمعه. وبناءً عليه لا يصلح إبداء الضعف والكسل والتهاون والتخاذل والتوقف والتردد، في ضرب أعناق أعداء الله. فبعد إراقة دماء كثيرة إن دخل الرعب في قلوبهم، بحيث تَوَقَّفَ زحفهم، (وفنيت قوتهم) فلا بأس من الاكتفاء على أسرهم. قال الله تعالى:
{ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخن في الأرض} (الأنفال 67).
فالأسر قد يقودهم إلى الاتّعاظ وتلقّي النصيحة والدرس، وتواجدهم بين المسلمين قد يساعدهم في إجراء مقارنة بين ما هم فيه وما عليه المسلمون، وتأملها بدقة وتمعّن، فقد يؤدّي ذلك إلى الإذعان والطاعة للحق والصدق. ولا مانع من إطلاق سراحهم بلا مقابل إن كان فيه مصلحة، إذ المنّ عليهم قد يقودهم إلى الإسلام إن لمسوا أخلاق الإسلام السمحة، كما يمكن إطلاق سراحهم بالفدية، أو بتبادل الأسرى، إذ ذلك لا يخلو عن مصلحة. وعلى كل حال لا يمكن إرجاع الأسرى إلى بلادهم إلا في وجهين:
(1) الإفراج عنهم. (2) إطلاقهم بدون مال.
وللإمام أن يفعل ما فيه مصلحة للمسلمين. وقد رُويت روايات في فتح القدير والفتاوى الشامية عن الحنفية ما تؤيد ذلك. أما إن لم يكن من المصلحة إرجاع الأسرى إلى بلادهم، فالوجوه ثلاثة: (1) اعتبارهم ذمّيين يعيشون داخل الدولة الإسلامية بصفتهم رعاياها. (2) استرقاقهم (3) ضرب أعناقهم بالسيف.
لا نجد في السيرة النبوية قتل الأسرى إلا في مناسبات معيّنة، بأن أحدث حدثا عقوبته القتل، ولا مانع من استرقاقهم أو تحويلهم إلى أهل الذمّة.
{حتى تضع الحرب أوزارها} أي تستمر الحرب والقتل والأسر حتى تضع الحرب أوزارها، وتتوقف عن الاستمرار، (وهذا لا يحصل إلا في زمن عيسى عليه السلام، والمعنى: إن الجهاد ماض إلى يوم القيامة).
{ولو يشاء الله لانتصر منهم} أي أن الله قادر على إهلاكهم بإنزال عذاب سماوي مثل قوم عاد وثمود، لكنه بمشروعية الجهاد أراد ابتلاء عباده، ليرى كم منهم يستعد للتضحية بالنفس والمال، وكم من الكفار يتنبّهون بتلك التحذيرات المتكررة التي توجّه إليهم، ويغتنموا الفرصة المهيأة لهم من الله، فلا يفاجئهم بالعذاب مثل الأمم السابقة. (ويعاقب بعض الكفار بعقوبة فورية بالجهاد)
{والذين قُتلوا في سبيل الله} أي الذين قُتلوا في سبيل الله، إن لم يكونوا ظافرين في الدنيا حسب الظاهر، فهم ناجحون عند الله، لن يضيع أعمالهم، بل تثمر جهودهم في نهاية المطاف، (ويُنمي ثواب أعمالهم إلى يوم القيامة) ويهديهم إلى الجنة، ويصلح أحوالهم وظروفهم في جميع مراحل الآخرة ومنازلها. (من القبر والحشر والميزان وغيرها من المواقع، يسهّل لهم ويُريحهم)
{ويُدخلهم الجنّة عرفّها لهم} فقد عرّف لهم الجنة وأحوالها على لسان الأنبياء عليهم السلام، ووعوها بقلوبهم ووجدانهم، فسوف يدخلونها، ثم يعلم كل منهم مقره ومنزله بنفسه، إذ لا يميل قلبه وروحه إلى غيره.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: {عرّفها لهم} أي طيّبها لهم. (التفسير العثماني بتسهيل وزيادة)
أهم مباحث الآيات الثلاث:
(1) ربطها بما قبلها... أشار أهل العلم إلى فوائد جهادية عجيبة في ثنايا الربط بين الآيات.
(2) الإشارة الصريحة إلى الجهاد الهجومي.
استنبطها الرازي من ألفاظ {لقيتم} و {فضرب الرقاب}.
(3) تناول القرطبي والآلوسي وأبو حيان والجصاص وغيرهم من المفسرين أحكام الأسرى، وأقوال الأئمة وأدلتهم بالتفصيل.
(4) الجهاد ماض إلى يوم القيامة.. هذا الأصل استنبطه ابن كثير وأبو حيان والرازي وغيرهم من المفسرين من لفظ {حتى تضع الحرب أوزارها}.
(5) حكمة الجهاد... استنبطها جميع المفسرين من لفظ {ولكن ليبلوَ بعضكم ببعض}.
(6) فضل الشهيد ومنازل الشهداء.
(7) فضل المجاهد.. إن قرأنا «قاتلوا» مكان قُتلوا.
(8) ذكر غزوة اُحد، إذ الآية الخامسة منها تناولت شهداء اُحد عند بعض المفسرين.
(9) لا تضيع أعمال الشهيد، يهديه الله تعالى إلى الرشد، ويُصلح باله. لقد أسهب المفسرون في تفاسير هذه الجمل والكلمات بالتفصيل.
(10) {عرّفها لهم} يدخل الشهداء في الجنة التي عرّفها لهم. لقد ذكروا أكثر من عشرة معاني لكلمة {عرّفها لهم}.
وسوف نسعى بإذن الله تعالى إلى احتواء تلك المعاني باختصار في هذا الكتاب.
الربط بين الآيات:
(1) دلت الآيات السابقة على أن النجاة من النار لا يمكن بدون اتباع محمد خاتم الأنبياء ·. فلا نجاح إلا لمن اتبعه واتبع الشرع الذي أنزل عليه، ومن هنا وجب على تلك الجماعة التي آمنت بمحمد ·، أن لا تبخل في انقاذ عدد أكبر من الناس من النار بواسطة الجهاد، لأن بفضل الجهاد تزول العوائق عن طريق الإسلام، كما قال الله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب}.
وفي التفسير الحقاني:
«بما أن مدار النجاة من النار في اتباع محمد · آخر الأنبياء، لذلك الواجب على الجماعة التي آمنت به أن لا تبخل في إزالة العوائق من طريق الحق توطئةً له أمام بقية إخوته، لذلك قال الله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشُدّوا الوثاق فإنما منّاً بعد وإما فدآءً}.»
(2) في الآيات السابقة أكّد على صلاح المؤمنين وفساد الكافرين، والآن تناول الجهاد الذي يقضي على المفسدين بأيدي المصلحين. (مفهوم بيان القرآن)
(3) قوله تعالى: {فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب} يأمر المسلمين بدحر الكفر والشرك وقوى الشر، ولمّا قابل بين الحق والباطل في أول الأمر كان الغرض منه إلزام المؤمنين من أهل الحق بالجهاد للقضاء على قوة الكفر وهيمنته، ويبالغوا في قتال الكفار ومجابهتهم، ويضربوا أعناقهم، ويريقوا دماء هؤلاء المجرمين، ليقضوا على قوتهم ويُضعفوا معنوياتهم، فلا يقدروا على مقاومة المسلمين. (معارف القرآن للكاندهلوي)
(4) «في الآيات السابقة أشار إلى حقيقة، وهي أن الكفار لا يتبعون إلا الباطل، والمؤمنون لا يتبعون إلا الحق، فالمعركة دائرة بين الحق والباطل منذ الأزل، وسوف تستمر إلى يوم القيامة. فالآن يتصدى الله تعالى لبيان ضوابط القتال ومصالحه». (معالم العرفان)
(5) في الآيات السابقة أكّد على أن الله تعالى يُحبط أعمال الكافرين، وقيمة الإنسان من رصيد أعماله، فمن كان رصيده صفر فهو ضائع هالك. (مثله مثل ذباب على وجه الحمار) فهذا الضائع المهمل إن تصدّى لإيذاء الناس، فالأولى القضاء عليه. لذلك أرشد في هذه الآية إلى ضرب أعناقهم، لأن بحبط أعمالهم زالت حرمتهم.
«لمّا بيّن أن الذين كفروا أضل الله أعمالهم، واعتبار الإنسان بالعمل، ومن لم يكن له عمل فهو همج، فإن صار مع ذلك يؤذي حسن إعدامه، {فإذا لقيتم} بعد ظهور أن لا حرمة لهم بعد إبطال أعمالهم فاضربوا أعناقهم». (التفسير الكبير)
(6) إن من الناس من يقول لضعف قلبه وقصور نظره إيلام الحيوان من الظلم والطغيان، ولاسيما القتل الذي هو تخريب البنيان، فيقال ردا عليهم: لما كان اعتبار الأعمال باتباع الحق والباطل، فمن يقتل في سبيل الله لتعظيم أمر الله لهم من الأمر ما للمصلي وللصائم، فإذا لقيتم الذين كفروا فاقتلوهم ولا تأخذكم بهم رأفة، فإن ذلك اتباع الحق والاعتبار به، لا بصورة الفعل. (التفسير الكبير)
تنبيه:
لقد ربط الإمام الرازي في التفسير الكبير هذه الآية بما قبلها بثلاثة طرق، وقد أتينا على اثنين منها، فيما سبق ربط واحد في العبارة المتقدمة، لذلك لم نعاوده هنا.
بيان الجهاد الهجومي:
قال المفسرون: هذه الآية أمرت بالجهاد الهجومي، بأن يقوم المسلمون بمهاجمة الكفار. (وحسب الترتيب الإسلامي فإنهم في البداية يُدعون إلى الإسلام، فإن أبوا، عُرضت عليهم الجزية، فإن أبوا فالقتال).
قال الإمام القرطبي رحمه الله:
لمّا ميّز بين الفريقين أمر بجهاد الكفار. (القرطبي)
في هذه الآية أمر الله تعالى بقتال الكفار، أوضح ذلك الرازي بتعبير أوسع فقال:
«ما الحكمة في اختيار ضرب الرقبة على غيرها من الأعضاء، نقول فيه: لمّا بين أن المؤمن ليس يدافع إنما هو دافع، وذلك أن من يدفع الصائل لا ينبغي أن يقصد أولا مقتله، بل يتدرج ويضرب على غير المقتل، فإن اندفع فذاك، ولا يترقى إلى درجة الإهلاك، فقال تعالى: ليس المقصود إلا دفعهم عن وجه الأرض وتطهير الأرض منهم، وكيف لا والأرض لكم مسجد، والمشركون نجس، والمسجد يطهر من النجاسة». (التفسير الكبير)
وأضاف قائلاً: «وفي قوله «لقيتم» ما ينبئ عن مخالفتهم الصائل، لأن قوله «لقيتم» يدل على أن القصد من جانبهم بخلاف قولنا لقيكم ولذلك قال في غير هذا الموضع {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} (التفسير الكبير).
أحكام أسرى الحرب:
ومن أحد أهم مباحث سورة محمد أحكام الأسرى.
قال الله تعالى: {فشُدّوا الوثاق فإمّا منّاً بعد وإما فداءً}. لقد توسع أهل العلم في هذا المبحث، فيما يلي نورد الخلاصة:
«دلّت الآية على أمرين، الأول : إن أدّى قتالهم إلى كسر شوكتهم والقضاء على سلطانهم، فالأمر الآن بأسرهم دون قتلهم، ثم أمام المسلمين خياران في الأسرى، الأول: المنّ عليهم، بإطلاق سراحهم بدون مقابل. والثاني: بأخذ الفدية منهم. وهذا الثاني في ظاهره يخالف ما نزل في سورة الأنفال من عتاب بشأن أسرى بدر الذين اُطلقوا بالفدية، فإن النبي · قال إن العذاب قد دنا من هذه الشجرة، ولو نزل لما سَلِمَ منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ رضي الله عنهما، لأنهما عارضا أخذ الفدية من الأسرى. فباختصار لمّا منعت آية الأنفال من إطلاق أسرى بدر بالفدية فما بال إطلاقهم بدون أخذ شيء؟ أما آية سورة محمد هذه فقد أذنت الوجهين، لذلك قال أكثر المفسرين: إن آية سورة محمد نسخت آية الأنفال. ففي تفسير المظهري : هذا هو قول عبد الله بن عمر والحسن وعطاء وأكثر الصحابة وجمهور الفقهاء. ومذهب الأئمة الفقهاء كالثوري والشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله تعالى.
وقال ابن عباس: كان المسلمون أقلّ عددا يوم بدر، لذلك منع من المنّ والفداء، فلما زاد عددهم وازدانت شوكتهم، أذن بالمنّ والفداء. وقال القاضي ثناء الله بعد نقله: هذا هو الصحيح والمختار، لأن النبي · عمل به بنفسه، وبعده خلفاءه الراشدون عملوا به، فنسخت هذه الآية آية سورة الأنفال. إذ آية الأنفال نزلت في غزوة بدر، التي وقعت سنة اثنتين من الهجرة، والذين أطلقهم النبي · يوم الحديبية سنة ست من الهجرة بدون مقابل، كان حسب آية سورة محمد.
ففي الصحيح عند مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة نزلوا من «جبل تنعيم» يريدون قتله غيلة، فوقعوا جميعا في الأسر، ثم أطلقهم النبي · بدون مقابل. فنزلت هذه الآية من سورة الفتح {وهو الذي كفّ أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم}.
والمشهور من مذهب الإمام أبي حنيفة في رواية عنه أنه لا يجوز الإفراج عن الأسرى سواء كان بالفدية أو بغيرها (فهم إما يُسترقون أو يُقتلون، لأن في الإفراج عنهم تقويتهم) لذلك قال الحنفية بنسخ آية سورة محمد المذكورة بآية الأنفال. لكن المظهري أوضح بأن آية الأنفال سابقة في النزول على آية سورة محمد، فآية محمد نسخت آية الأنفال، دون العكس، ثم نقل المذهب المختار للإمام أبي حنيفة بجواز الإفراج إن كان فيه مصلحة للمسلمين، وقال: هذا هو المختار الأصح، وإليه مال ابن الهمام في فتح القدير من علماء الحنفية.
وقال لا يجوز الإفراج عن الأسرى وفق ما نقل صاحب القدوري والهداية في رواية عن الإمام الأعظم، وعنه في رواية ثانية في السير الكبير مطابق لقول الجمهور، وهذا هو الظاهر في الروايتين المذكورتين، وقال الطحاي في معاني الآثار: هذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله.
وباختصار، آيتا سورة محمد وسورة الأنفال ليست بمنسوخة عند جمهور الصحابة والأئمة، يجوز لإمام المسلمين أن يختار أيهما شاء، والإمام القرطبي أثبت بعمل النبي · وعمل الخلفاء الراشدين أن الأسرى قُتلوا و اُسروا واسترققوا كما اُخذت الفدية عنهم، أو اُفرج عنهم بدون فدية، ومن ضمن الفدية تحرير أسرى المسلمين عوضا عنهم، أو أخذ المال منهم، ثبت الوجهان من عمل الخلفاء الراشدين. وقال بعد نقل هذا التفصيل: عرفنا مما ذكرنا أن الآيات التي سبق الحديث عنها أنها ناسخة أو منسوخة، فالصحيح أنها محكمة لا ناسخ منها ولا منسوخ، وذلك لأن الكفار إن وقعوا في الأسر، جاز لإمام المسلمين أن يعامل معهم بالمعاملة الأربعة المذكورة، فإن شاء قتلهم، وإن شاء استرقهم، وإن شاء أفرج عنهم بالفدية، أو استبدلهم بأسرى المسلمين، أو أطلقهم بدون مقابل. وقال القرطبي بعد سرد التفصيل المذكور:
وهذا القول يروى من أهل المدينة والشافعي وأبي عبيد، وحكاه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة، والمشهور ما قدّمناه. (القرطبي 1/228)
فاتضح بما ذكرنا أنه يجوز للإمام قتل الأسرى أو استرقاقهم بإجماع أهل العلم، واختلفوا في الإفراج بالفدية أو بدونها، وأجازهما الجمهور.
مبحث الرق في الإسلام:
وبالنظر في الآيات المذكورة لا يجوز الاستنتاج بنسخ وإلغاء أحكام القتل أو الاسترقاق، لأن الاسترقاق إن كان محظورا لذكره الله تعالى في غير ما موضع من القرآن والسنة، ثم إن كانت هذه الآية للمنع فلماذا استرق النبي ·؟ ثم بعده أصحابه المفدين على القرآن والسنة في كثير من الغزوات والمعارك؟ فقد وردت بكثرة قصص الاسترقاق في روايات الحديث والتاريخ بالتواتر المعنوي بحيث لا يُعدّ إنكارها إلا مكابرة.
أما إن قال قائل: إن الإسلام بصفته أكبر محافظ لحقوق الإنسان كيف أذن باسترقاق البشر؟ أجيب عنه بأن السؤال المذكور لم ينشأ إلا بقياس الرق الذي أباحه الإسلام على استرقاق بقية الأمم والشعوب، إذ الحقوق التي منحها الإسلام للرقيق، والمكانة التي حصل عليها الرقيق في المجتمع، فإن الرق بعد ذلك ليس أكثر من مجرد اسم، وبعد الاجراءات التي اتخذها الإسلام، تحوّل الرق إلى نموذج للأخوة الإسلامية، فلو تأملنا حقيقته وروحه لأدركنا أنه لا يمكن التعامل مع أسرى الحرب بأفضل منه، كما قال المستشرق الشهير «موسيو جوستاؤ ليبان» في كتابه «حضارة العرب»:
«كلمة الرق إذا اُطلقت أمام شخص أوروبي متعوّد على قراءة الروايات الأمريكية منذ ثلاثين سنة، لدارت أمام عينيه صور أولئك المساكين المقرّنين في الأصفاد، والأطواق في أعناقهم، يساقون بالأسواط، طعامهم لا يسد رمقهم، سكنهم حجرات مظلمة. لكنني لا يهمني هنا مبحث مدى صحة هذه الروايات، كما لا يهمني هل تنطبق تلك الروايات على ما فعل الإنجليز في أمريكا خلال السنوات الماضية، لكن الذي لا يسع للاختلاف أن نظرية الاسترقاق في الإسلام تختلف عن نظرية الاسترقاق عند النصارى». (منقول عن دائرة معارف القرآن لفرويد وجدي، 4/279 المادة «الاسترقاق».
والواقع، إن في كثير من الحالات لا يوجد طريق أفضل للتعامل مع أسرى الحرب من الاسترقاق، لأن الأسير إن لم يُسترق، فهناك وجوه ثلاثة أخرى يمكن التعامل معها، إما القتل، أو الإفراج عنه، أو السجن المؤبّد، فهذه الوجوه الثلاثة قد لا تصلح نظرا لبعض المصالح، لا يستحسن قتله، لأنه قد يكون موهوبا، وفي الإفراج عنه احتمال تشكيله خطرا عظيما للمسلمين، فلا يبقى إلا خياران، إما السجن المؤبّد في جزيرة نائية، أو الاسترقاق والاستفادة من مواهبه وخبراته، ورعاية حقوقه. وكلنا يعلم أفضل الوجهين، خاصة إن كانت نظرة الإسلام إلى الرقيق ما أشار إليها الرسول · في حديث:
«إخوانكم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليُعنه». (رواه البخاري ومسلم وأبو داود وغيره).
إن المرتبة التي أكرم الإسلام العبيد بها من ناحية الحقوق المدنية والاجتماعية، فإنه تجعله أقرب بكثير من الأحرار، فالإسلام أذن للرقيق بالنكاح، بل أكّد عليه بقوله: {وأنكحوا الأيامى منكم} وأجاز له نكاح الحرائر، وسهمه في الغنيمة مثل سهم الحر، ومن أجاره العبد فهو كمن أجاره الحر. وقد وردت في القرآن والسنة توجيهات كثيرة بشأن الرقيق، يمكن تشكيل كتاب مستقل بها، حتى إن آخر كلمة جرت على لسان رسول الله · وقت وفاته كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم». (رواه أبو داود، باب في حقوق المملوك)
أما اهتمام الإسلام بتوفير فُرص التعليم والتربية للأرقاء فذلك يبدو من خلال معرفة أن أساطين العلم في كافة الأقطار الإسلامية في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان كانوا عبيدا، كتب التاريخ محشوة بذكرها. إلى جانب ذلك فإن القرآن والسنة حشدتا من فضل تحرير العبد ما قد يصعب أن يوازيه عمل صالح غيره، فقد لجأت كثير من أحكام الشرع إلى حِيَلٍ لتحرير العبيد، وفي حالات وجوب كفارة الصوم والقتل والظهار واليمين كان تحرير الرقبة في مقدمتها، وجاء في الحديث أن :«مَنْ لَطَمَ مَمْلُوكَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يُعْتِقَهُ». (صحيح مسلم، باب صحبة المماليك).
وقد كان صحابة رسول الله · يُكثرون من تحرير العبيد، ويمكن تقدير ذلك بالأعداد التي أشار إليها صاحب «النجم الوهاج» في العبيد الذين أعتقهم الصحابة رضي الله عنهم.
عائشة 69 عبداً، عباس بن عبد المطلب 70 عبداً. حكيم بن حزام 100 عبد، عبد الله بن عمر 1000 عبد، عثمان بن عفان 20 عبداً، ذو الكلاع الحميري 8000 عبيد، وعبد الرحمن بن عوف في يوم واحد 30000 عبد.
وتشير الخارطة المذكورة إلى أن عدد أولئك العبيد الذين أعتقهم سبعة من صحابة رسول الله · يصل إلى 39259 عبيد، أما الذين أعتقهم غيرهم فقد يتجاوزون التقادير والخيالات. فباختصار إن الإصلاحات التي نفذها الإسلام فيما يتعلق بشئوون الرقيق، فإن المتأمل فيها بالعدل والإنصاف يتوصل إلى أنه لا يمكن قياس نظام الرق الإسلامي على غيره من الأنظمة، وبعد تلك الإصلاحات صار استرقاق أسرى الحرب مَنّاً وفضلاً عليهم». (معارف القرآن)
قال الإمام النسفي رحمه الله:
«وحكم أسارى المشركين عندنا القتل أو الاسترقاق، والمن والفداء المذكوران في الآية منسوخ بقوله فاقتلوا المشركين (التوبة 5) لأن سورة «براءة» من آخر ما نزل، وعن مجاهد: ليس اليوم من ولا فداء، إنما هو الإسلام، أو ضرب العنق. أو المراد بالمن أن يمن بترك القتل ويسترقوا أو يمن عليهم فيخلوا لقبولهم الجزية وبالفداء أن يفادى بأسراهم أسارى المسلمين، فقد رواه الطحاوي مذهبا عن أبي حنيفة رحمه الله، وهو قولهما، والمشهور أنه لا يرى فداءهم لا بمال ولا بغيره، لئلا يعودوا حربا علينا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى: للإمام أن يختار أحد الأمور الأربعة: القتل والاسترقاق والفداء بأسارى المسلمين والمن». (المدارك)
والغرض من نقل هذه العبارة هنا الإشارة إلى أن القتل والاسترقاق ثبتا من كتاب الله تعالى، فلا داعي إلى تلك التأويلات التي ذكرها الإمام الرازي، ونقلها بعض التفاسير الأردية. (والله أعلم بالصواب)
الجهاد ماض إلى يوم القيامة:
قال الله تعالى: {حتى تضع الحرب أوزارها} ..
أي واصلوا قتال الكفار حتى تنتهي سلسلة المعارك، وتزول قوتهم وشوكتهم، فإنها تؤدّي إلى إنهاء المعركة، يحدث ذلك عند نزول المسيح عليه السلام. فقد رُوي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله · قال: لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ حَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمْ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ. (رواه أبو داود) واللفظ عند البغوي : الجهاد ماض منذ أن بعثني الله تعالى...حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال. (المظهري)
لاحظوا فيما يلي أقوال المفسرين في تفسير الآية الكريمة:
(1) وقال ابن كثير رحمه الله:
{حتى تضع الحرب أوزارها}..
قال مجاهد: (الجهاد ماض..) حتى ينزل عيسى بن مريم عليه السلام. هذا هو التفسير الذي توصل إليه مجاهد بهذا الحديث.
وقال النبي ·:
«لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال».
وأخرج أحمد والنسائي عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُفَيْلٍ الْكِنْدِيِّ قَالَ كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَذَالَ النَّاسُ الْخَيْلَ وَوَضَعُوا السِّلاحَ وَقَالُوا لَا جِهَادَ قَدْ وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ وَقَالَ كَذَبُوا الْآنَ الْآنَ جَاءَ الْقِتَالُ وَلَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ وَيُزِيغُ اللَّهُ لَهُمْ قُلُوبَ أَقْوَامٍ وَيَرْزُقُهُمْ مِنْهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ وَحَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ وَالْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُوَ يُوحَى إِلَيَّ أَنِّي مَقْبُوضٌ غَيْرَ مُلَبَّثٍ وَأَنْتُمْ تَتَّبِعُونِي أَفْنَادًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَعُقْرُ دَارِ الْمُؤْمِنِينَ الشَّامُ.
وقال قتادة: معنى {حتى تضع الحرب أوزارها} حتى لا يبقى شرك، ومعناها مشابه بمعنى قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} (تفسير ابن كثير).
(2) {حتى تضع الحرب أوزارها} أي تضع الحرب آلاتها وأجهزتها التي لا حرب بدونها. وقيل أوزارها ذنوبها، والمعنى: حتى ينتهي المشركون عن ذنبهم وهو الشرك. (المدارك)
(3) وقال ابن عطية: وظاهر اللفظ أنها استعارة يراد بها التزام الأمر أبدا، وذلك أن الحرب بين المؤمنين والكافرين لا يضع أوزارها، فجاء هذه كما تقول أنا أفعل كذا وكذا إلى يوم القيامة، فإنما تريد أن تفعله دائماً. (البحر المحيط)
وذكر أبو حيان العديد من الأقوال المتشابهة بعضها ببعض:
وقيل: الأوزار هنا الآثام، لأن الحرب لابد أن يكون فيها آثام في أحد الجانبين، وهذه الغاية. قال مجاهد: حتى ينزل عيسى بن مريم. وقال قتادة: حتى يسلم الجميع. وقيل: حتى تقتلوهم. (البحر المحيط)
قال الإمام الرازي:
(4) ما الزمان الذي تضع فيه الحرب أوزارها؟ نقول: فيه عدة أقوال، وحاصلها هو الوقت الذي لا تبقى فيه جماعة من الكفار تقدر على مواجهة المسلمين، قيل: هذا يكون عند قتل الدجال ونزول عيسى بن مريم عليهما السلام. (التفسير الكبير)
(5) {حتى تضع الحرب أوزارها} بأن يُسلموا، أو يُعطوا الجزية للمسلمين، فالقتل والأسر يستمران حتى يتحقق الأمران.
{حتى تضع الحرب} أي أهلها {أوزارها} أثقالها من السلاح وغيره بأن يسلم الكفار، أو يدخلوا في العهد، وهذه غاية للقتل والأسر. (الجلالين)
وهذا الذي اختاره التهانوي رحمه الله تعالى، فقد قال:
«هذا القتل والأسر - الذي يجوز بعدهما المنّ والفداء - حتى يضع العدو السلاح، والمراد منه قبول أحد الأمرين، إما الإسلام وإما الاستسلام، فإن أسلموا أو وافقوا على دفع الجزية قبل القتل أو الأسر، لا يجوز قتلهم ولا أسرهم بعده». (بيان القرآن)
مصلحة الجهاد:
قال الله تعالى: {ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض}.
«ذلك» أي هذا هو الحكم المتعلق بالكفار، (بتقدير مبتدأ) أو هكذا افعلوا مع الكفار. (بتقدير فعل). (المظهري)
(1) والمعنى إن الله سبحانه وتعالى إن شاء لانتقم من الكفار، وأهلكهم بدون جهادكم، لكنه أمركم بالجهاد والقتال، لكي يبلوكم باقتتال الكفار، ويعاقب الكفار بأيدي المؤمنين، حتى يتوب بعضهم عن الكفر، ويتمسك بعضهم به ليستحق دخول النار. وخلاصة الكلام أن الله تعالى قادر على إهلاك المشركين واستئصالهم، لكنه أمر بالجهاد لمصلحة، وهي ابتلاء المؤمنين والكافرين. (المظهري)
(2) إن الله قادر على إهلاك الكافرين بنفسه، لكنه أمركم بالجهاد ليحصل لكم شرف اختياره.
«أي ولكن ليكلفكم فيحصل لكم شرف باختياره إياكم لهذا الأمر». (التفسير الكبير)
(3) {ليبلوا بعضكم ببعض} أي المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين وتمحيقا للكافرين. (المدارك)
(4) ولكن يجاهدوهم فينالوا الثواب ويخلد في صحف الدهر مالهم من الفضل الجسيم والكافرين بالمؤمنين بأن يعالجهم عزوجل ببعض انتقامه سبحانه فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه. (روح المعاني)
قال الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله تعالى:
لكنه لم يأمركم بالجهاد إلا ليبتلي بعضكم ببعض، أما ابتلاء المؤمنين فلمعرفة من يفضّل حكم الله وأمره على نفسه وروحه، وأما ابتلاء الكفار فلمعرفة من يتنبه لهذه العقوبة فيقبل الحق ويتبعه، فهذه هي المصلحة وراء مشروعية الجهاد. (بيان القرآن)
والمعنى أن للجهاد مصالح وحِكَمٌ كثيرة، ومن ضمنها المصلحة المذكورة في الآية.
{ولو يشاء الله لانتصر منهم} أشار فيها إلى أن مشروعية الجهاد مع الكفار في هذه الأمة كانت من باب الرحمة، إذ الجهاد بمثابة العذاب السماوي، والأمم الماضية تلقت عقوبتها على الكفر والشرك والعصيان من السماء والأرض، وكان ذلك ممكنا في الأمة المحمدية، لكن الله وقى هذه الأمة من مثل هذا العذاب ببركة محمد · رحمة الله للعالمين، وأقيم الجهاد الشرعي مقامه، الذي يختلف عن العذاب العام من ناحية التسهيلات والمصالح، منها أن العذاب العام يشمل الرجال والنساء والصبيان، فلا يسلم منه أحد، وفي الجهاد تسلم النساء والصبيان، ولا يُقتل من الرجال إلا من قاوم أولئك المجاهدين الذين يسعون إلى المحافظة على دين الله تعالى، ثم إن جميعهم لا يتعرضون للقتل، وكثير منهم من يُوفّق للإسلام والإيمان. ومن أحد فوائد مشروعية الجهاد ابتلاء المؤمنين والكفار، ليعلم من يستعد للتضحية بالروح والغالي لله تعالى، ومن يتشبّث بذيل الكفر والعصيان، أو يدخل في دين الله بعدما يشاهد (نزول النصر على المجاهدين) براهين صدق الإسلام الواضحة.
فائدة:
لاحظوا مزيدا من النصوص في تفسير هذه الآية الكريمة، ثم تأمّلوا أولئك المؤمنين الذين لا يقتربون من الجهاد، بل يخالفونه ويعارضونه، أين هم من هذا الامتحان والابتلاء؟ اللهم ارحم..
فضل الشهداء:
ثم قال الله تعالى:
{والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضلّ أعمالهم}..
تناول المفسرون بعض فضائل الشهداء ضمن تفسير هذا الجزء من الآية الكريمة، لاحظوا فيما يلي أولاً بعض نصوص أهل العلم، ثم نستعرض ملخصا جامعا حول فضائل ومناقب الشهداء.
(1) قال الله تعالى: {والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضلّ أعمالهم} ..
«فيها إشارة إلى أن الجهاد إن كان ابتلاءً وامتحاناً من ناحية فإنه لا يخلو من منفعة لكم، وهي أنكم إن قُتلتم في سبيل الله فذلك ليس مجرد نجاح في الامتحان، بل يثيبكم على أعمالكم بالجوائز الجسيمة، ويمنحكم مرتبة الشهادة في سبيل الله». (أنوار البيان)
(2) والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يضل الله أعمالهم، فلا يحسبوا أن الذين قُتلوا في سبيل الله قد ضيّعوا أرواحهم، بل الصحيح أنهم حصلوا على خير تعويض لما فقدوا من الروح والنفس. (معارف القرآن للكاندهلوي)
(3) «المجاهدون الذين قُتلوا في سبيل الله، لن يضيع الله حسناتهم بسبب سيئاتهم، بل يُسقط ذنوبهم، ويثيبهم على حسناتهم». (المظهري)
ثم ذكر المصنف رحمه الله تعالى حديثا طويلا حول فضل الشهداء، وعلى الراغبين مراجعته.
(4) «ذكر في أول السورة أن الذين يجتمعون على الكفر والشرك، ويصدون غيرهم عن الإسلام، حبط الله أعمالهم، أي ما يقومون به من الصدقات والتبرعات والأعمال الخيرية، لا يثابون عليها لكفرهم وشركهم، وفي المقابلة قال في هذه الآية: الذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضل أعمالهم، أي إن سبقت منهم سيئات فإنها لا تؤثر على حسناتهم، وقد تكفّر حسناتُهم سيئاتهم. (معارف القرآن)
(5) لقد تناول الإمام ابن كثير هذا الجزء من الآية بشكل أوسع، وأورد العديد من الأحاديث والروايات في فضل الشهيد. فقد قال:
ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال {والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم} أي لن يُذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، كما ورد بذلك الحديث الخ. (ابن كثير).
(6) لقد ذكر الإمام الرازي رحمه الله نكاتا رائعة على هذه الآية، لاحظوا خلاصة ما كتب:
* يمكن أن يكون هذا الجزء من الآية مرتبطا ب {فضرب الرقاب} وذلك لأن الله قال {فضرب الرقاب} ولا شك أن الذي يتقدم لقتل غيره، قد يكون هو القتيل، ولدفع هذا الاحتمال قال: لا تخافوا، إن أنتم قُتلتم فإن لكم كامل ثواب الجهاد والقتال، وبعد معرفة هذا الحكم يسهل عليه أن يتقدم ويقاتل.
* ويمكن أن يكون هذا الجزء من الآية مرتبطا ب {ليبلوا بعضكم ببعض} وهذا الابتلاء ليس إلا عبارة عن الفوز والنجاح في الأحوال كلها، إن قُتلتم ظفرتم بالجنة، وإن قَتَلتم الكفار فقد فزتم، وذلك لأن الهزيمة الظاهرية كأن يُقتَل المؤمنُ في الجهاد، لا تخلو عن فوز، فإن الفوز في صورة قتل العدو أوضح.
* ويمكن أن يكون هذا الجزء من الآية مرتبطا ب {ليبلوا} كأنه جواب لسؤال مقدر، وهو: كيف ابتلاء شيء غال بإهلاكه؟ فإن ابتلاء السيف لا يكون بضربه على الصخرة، فإن ذلك يؤدّي إلى تحطّم السيف، إن كان الأمر هكذا فإن الإنسان أعزه الله وأكرمه، فكيف ابتلاءه بالجهاد الذي قد يتعرّض فيه للهلاك؟ أجابت الآية الكريمة بأن القتل في الجهاد ليس بهلاك بالنسبة للمؤمن، بل هو حياة أبدية له، إذ الموت لا مفر منه، لكنه لو جاءه بدون شهادة، حُرم من ثوابه.
فنقول: القتل ليس بإهلاك بالنسبة إلى المؤمن، فإنه يورث الحياة الأبدية، فإذا ابتلاه بالقتال فهو على تقدير أن يقتل مكرم، وعلى تقدير أن لا يقتل مكرم، هذا إن قاتل وإن لم يقاتل، فالموت لابد منه وقد فوت على نفسه الأجر الكبير. (التفسير الكبير)
فائدة:
قال الله تعالى في الكفار: {أضل أعمالهم} وفي الشهداء قال: {فلن يُضلّ أعمالهم} أتى بصيغة الماضي للكفار للإشارة إلى أن عمله كأنه لم يوجد، وأنه معدوم من البداية، أما المؤمن فأتى له بصيغة المضارع للإشارة إلى أن عمله قد وُجد، وأن الله يقوّيه وينميه. {فلن يضل} للتأبيد. (التفسير الكبير)
وقال التهانوي رحمه الله:
«إن كان قتل العدو خيرا في الجهاد، فإن صرع المسلم بيد الكافر لا يخلو عن خير، فالذين يُقتلون في سبيل الله، لن يضيع الله أعمالهم، ومن أعماله عمله الذي قُتل فيه، وقد يتوهم أحد في الظاهر بضياع عمله بعد مقتله، إذ لم يقدر على تحصيل مكاسب الجهاد، فأكّد أنها لا تضيع، لأنه ترتبت عليه نتائج عالية، كما أشار إليها بقوله {سيهديهم ويصلح بالهم}». (بيان القرآن)
ملخص فضائل الشهداء:
الشهادة عبارة عن حياة خاصة قوية لذيذة عالية، تقرب العبد من ربه، فقد أعلن القرآن بأن :
(1) الشهيد حي (البقرة 154، آل عمران 169).
(2) لا تقولوا للشهيد ميتا (البقرة 154).
(3) الشهيد يُرزق من عند ربه (آل عمران 169).
(4) لا تحسبوا الشهيد ميتا (آل عمران 169).
(5) أعمال الشهيد مستمرة، أي يثاب عليها بعد الشهادة، كما أنها تنمو (محمد4).
(6) الشهيد يدخل الجنة (محمد 6).
(7) تُعطّر الجنةُ للشهيد (محمد 6).
(8) يجد الشهيد تسهيلات في مراحل الآخرة كلها من القبر والحشر والآخرة. (محمد5)
(9) يفرح الشهيد كثيرا (آل عمران 170).
(10) الشهيد يحتفل (آل عمران 171).
(11) الشهيد ينتظر أهل بيته بسعادة غامرة. (آل عمران 170)
(12) الشهيد صادق عند الله. (الأحزاب 23)
(13) الشهيد وفا بما وعد.. (الأحزاب 23).
(14) يُصلح الله بال الشهيد.. (محمد 5)
(15) للشهيد نعمة الهداية الخاصة.. (محمد 5).
(16) للشهيد نور.. (الحديد 19).
(17) للشهيد مغفرة.. (آل عمران 157).
(18) للشهيد رحمة.. (آل عمران 157).
(19) للشهيد نِعَم الله الكثيرة.. (آل عمران 171).
(20) للشهيد فضل من الله.. (آل عمران 171).
(21) لا خوف على الشهيد ولا غم عليه... (آل عمران 170)
لا تكرار في هذه القائمة ذات إحدى وعشرين نقطة. وهي تفتح الطريق أمام الجوائز والفضائل التي أكرم الله بها الشهيد، إن تأملها ذووا القلوب المطمئنة، لسألوا الله الشهادة بكرة وأصيلا، وكان النبي · يسأل الله الشهادة مرارا وتكراراً، ويتمناها. (صحيح البخاري).
لاحظوا فيما يلي بعض المكرمات التي جاء الإعلان عنها على لسان الرسول ·:
(1) عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلا الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ. (رواه البخاري ومسلم والترمذي)
(2) لأن يموت في سبيل الله خير له من أن يملك الدنيا وما فيها. (أحمد والنسائي).
(3) ذهبت الملائكة بالنبي · وأرته بيت الشهداء، فقال النبي ·: ما رأيت بيتا أجمل منه قط. (البخاري)
(4) الملائكة تُظلل الشهيد. (البخاري ومسلم)
(5) جناح الشهيد في الجنة وطيرانه (الطبراني).
(6) يُغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَيْن. (مسلم)
(7) لا يجد الشهيد من القتل والموت إلا كما يجد أحد بالقرصة. (الترمذي، والنسائي وابن ماجه).
(8) إن أرواح الشهداء توضع في حواصيل طيور خُضر.. (الترمذي)
(9) يشفع الشهيد في سبعين نفر من أهل بيته. (أبو داود وصحيح ابن حبان).
(10) يُغفر للشهيد كل ذنب.. (ابن حبان)
(11) يقال للشهيد: ادخل من أيّ أبواب الجنة شئتَ.. (ابن حبان)
(12) الشهيد وقاه الله من عذاب القبر.. (البزاز، البيهقي)
(13) الشهيد لا يدركه الفزع الأكبر.. (البزاز، البيهقي)
(14) يكرم الله الشهيد بلباس خاص.. (البزاز والبيهقي)
(15) يلبس الشهيد تاج العزة والخلود.. (البزاز والبيهقي)
(16) الشهيد يرافق إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام.. (البزاز والبيهقي)
(17) يوضع للشهيد منبر من نور تحت العرش (البزاز والبيهقي)
(18) الشهيد يدخل الجنة بغير حساب (الطبراني)
(19) يضحك الله مع الشهيد، ومن كان هذا حاله لا حساب عليه. (أحمد وأبو يعلى)
(20) للشهيد غرف عالية في الجنة.. (أحمد)
(21) يُفضّل الشهيدُ على الملائكة.. (الأصبهاني)
(22) جعل الله الشهيد سخيا.. (أبو يعلى والبيهقي)
(23) يُغفر للشهيد بأول قطرة من دمه.. (مسند أحمد)
(24) يرى الشهيد مقامه في الجنة بعد سقوطه على الأرض .. (مسند أحمد)
(25) يُزوّج الشهيد باثنتين وسبعين حوراً.. (مسند أحمد)
(26) التكريم الفوري التالي للشهيد:
(1) يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ.. (2) وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ.. (3) وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر. (4) وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ  (5) وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (6) وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ (7) وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ.. (رواه الترمذي، وقال حديث صحيح غريب)
(27) أحب شيء إلى الله قطرة دم الشهيد.. (الترمذي)
(28) تنزل الحور العين على الأرض لاستقبال الشهيد.. (الطبراني)
(29) يُلبس الشهيد مائة حلة من الجنة عند صعوده إلى السماء.. (الطبراني)
(30) لا يجف دم الشهيد حتى تصل إليه اثنتان من الحور بحُلتين كل منهما خير من الدنيا وما فيها. (ابن ماجة)
(31) يتطلع الناس إلى منزلة الشهيد العالية يترفعون أعناقهم..(الترمذي)
(32) للشهيد قبة خضراء بباب نهر الجنة، يأتي إليها الرزق الخاص غدوا وعشيا.. (أحمد وابن حبان)
(33) للشهيد منزلة الفردوس العالية في الجنة.. (البخاري)
(34) بارقة السيف كفت الشهيد من فتنة القبر. (النسائي)
(35) الشهيد وجهه أبيض، وجسمه معطّر، ورزقه موفور. (المستدرك للحاكم)
(36) الشهيد محبوب ربه.. (الطبراني)
(37) من فرط سعادة الشهيد أنه يتمنى أن يبلغ خبره إلى أهله. (أبو داود)
(38) رضي الله عن الشهيد ورضي عنه.. (البخاري)
(39) الشهداء لا يصعقون عند نفخ الصور.. (المستدرك للحاكم)
(40) الشهداء يحومون حول العرش يوم القيامة يحملون السيوف.. (ابن أبي الدنيا)
وهناك كم هائل من الفضائل والمناقب في الشهيد التي وردت على لسان المصطفى ·، تجمعها الروايتان التاليتان:
(1) عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه سعد أن رجلا جاء إلى الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا ، فقال : حين انتهى إلى الصف : اللهم آتني أفضل ما تؤتي عبادك الصالحين ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة ، قال : « من المتكلم آنفا ؟ » فقال الرجل : أنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا يعقر جوادك ، وتستشهد في سبيل الله » . « هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه »
دلّت على أن أفضل ما يُعطى المؤمن من النعيم الشهادة.
(2) أخرج القرطبي في تفسيره رواية مرسلة عن الحسن.. «قال : قال رسول الله ·: إن فوق كل برّ برّ حتى يبذل العبد دمه، فإذا فعل ذلك فلا برّ فوق ذلك». (القرطبي 8/244)
ثم أورد هذا الشعر:
      الجود بالماء جود فيه مكرمة      والجود بالنفس أقصى غاية الجود
(القرطبي)
فضل المجاهدين:
قال الله تعالى: {والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يضل الله أعمالكم}..
وفي قراءة «قاتلوا» بصيغة المعروف، وقيل «قُتلوا» بصيغة المجهول، وقيل «قَتَلُوا» بصيغة المعروف، والمعنى واضح في القرائتين، قراءة الجمهور وقراءة المجهول، بأن الله لا يضيع أعمال المجاهدين في سبيله، يوفّقهم الله للخيرات في الدنيا ويصلح بالهم ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار بعد وفاتهم. (التفسير الحقاني)
ومن هنا عرفنا أن المشاركة في الجهاد في سبيل الله سبب لحماية الأعمال وتنميتها والوصول إلى الجنة، وقتل الكفار لرضا الله سبحانه وتعالى ليس فساداً في الأرض، بل عمل عظيم من أعمال البرّ، فيما يلي لاحظوا ملخص ما كتبه الإمام الرازي:
«أما من قرأ «قَتَلوا» فلأنه لما قال {فضرب الرقاب} ومعناه فاقتلوهم بين ما للقاتل بقوله {والذين قُتلوا في سبيل الله فلن يُضلّ أعمالَهم} رداً على من زعم أن القتل فساد محرم إذ هو إفناء من هو مكرم، فقال عملهم ليس حسنة الكافر يبطل بل هو فوق حسنات الكافر، أضل الله أعمال الكفار، ولم يضل القاتلين، فكيف يكون القتل سيئة، وأما من قرأ {قاتَلوا} فهو أكثر فائدة وأعم تناولا، لأنه يدخل فيه من سعى في القتل سواء قتل أو لم يقتل». (التفسير الكبير)
الإشارة إلى غزوة اُحد:
قال بعض المفسرين: نزلت هذه الآية في البداية في شهداء اُحد، فقد تلقى المسلمون هزيمة ظاهرة يوم اُحد، قُتل منهم سبعون، وأصيب آخرون بجروح، وكان من بينهم النبي · ذاته، فنزلت هذه الآية ووضعت حداً لتلك الأقاويل التي تقول: ما فعل النبي · ما فعل إلا لإهلاك المسلمين. فقد أرشدت الآية إلى أن القتل في سبيل الله من أعظم ما يتحقق للمسلم من فوز وسعادة، فالجبناء المتخوّفون من الموت يخالفون الجهاد، ويتهمون دعاة الجهاد بالسعي إلى إهلاك المسلمين، أرجو منهم أن يتأمّلوا هذه الآية المباركة بكل هدوء وتمعّن.
قال الإمام القرطبي رحمه الله:
{والذين قُتلوا في سبيل الله} يريد قتلى اُحد من المؤمنين.
قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم اُحد ورسول الله · في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اُعلُ هُبُل. ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، وقال المشركون: يوم بيوم بدر والحرب سجال. فقال النبي ·: قولوا لا سواء، قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون. فقال المشركون: إن لنا العزّى ولا عزّى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم. (القرطبي)
فشهداء أحد، هم مصداق الآية الأوّلى وفق ما قاله قتادة، لكن ألفاظ الآية عام تبيّن فضل كل مؤمن يُقتل في سبيل الله، كما فسّرها المفسرون بشكل عام.
وعد الله الشهيد بحماية العمل والهداية والصلاح:
قال الله تعالى: {والذي قُتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم، ويُدخلهم الجنة عرّفها لهم}.
فيها وعد الشهيد بأربعة أشياء:
(1) {فلن يضل الله أعمالهم}.
(2) {سيهديهم}.
(3) {ويُصلح بالهم}.
(4) {ويُدخلهم الجنّة عرّفها لهم}.
فيما يلي لاحظوا بعض نصوص أهل العلم:
«سيهديهم إلى طريق الجنة أو إلى الصواب في جواب منكر نكير {ويُصلح بالهم} يرضي خصمائهم ويقبل أعمالهم». (المدارك)
(2) الذين قُتلوا في سبيل الله {فلن يُضلّ أعمالهم} أي حسناتهم بسبب ارتكاب المعاصي في الماضي، بل يُسقط ذنوبهم، ويثيبهم على ما قدّموا من أعمال البر.
{سيديهم} أي يُسيّرهم الله تعالى في الدنيا على طريق الهداية، ويُنزلهم منازل عالية في الآخرة.
{ويُصلح بالهم} أي حالهم في الدنيا والآخرة، ووجه صلاح حالهم في الدنيا ضمّهم إلى قائمة الشهداء رغم بقاءهم بقيد الحياة، وإثابتهم بثواب الشهداء، لأنهم ما خرجوا من بيوتهم إلا طلبا للشهادة والقتال. أما صلاح أحوالهم في الآخرة فبإعفاء ذنوبهم سواء استُشهدوا أو لم يُستشهدوا، وقبول حسناتهم، وإرضاء (بالثواب والمجازاة) من كان له حق عليهم. فقد أخرج أبو نعيم في الحلية عن سهل بن سعد والبيهقي في شعب الإيمان، والبزار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:
قال النبي ·: ثلاثة يقضي الله عنهم ديونهم، أحدهم رجل خاف أن يحمل العدو على دول المسلمين المحروسة، ولا طاقة له، حتى يتقوّى بسلاح اشتراه بقرض، ثم مات قبل قضاء دينه، فإن الله يقضي عنه دينه.
وثانيهم رجل استقرض ليكفن أخاه ويدفنه، ثم مات قبل أن يقضي دينه، فإن الله يقضي عنه دينه.
وثالثهم رجل خشي أن يقع في الحرام، فتزوج بعدما استقرض دينا، وتعفّف، ثم مات قبل قضاء دينه، فإن الله يقضي دينه عنه. (التفسير المظهري)
(3) يبلغهم الله إلى غايتهم التي سوف يأتي بيانها، ويصلح أحوالهم في القبر والحشر والصراط وجميع منازل الآخرة، لا يفسد حالهم ولا تلحقهم مضرة. (بيان القرآن)
(4) {سيَهديهم ويُصلح بالهم} ذكرت للشهيد نعمتين، الأولى: يهديه الله، والثانية: يُصلح باله. والمراد من البال أحواله الدنيوية والأخروية، ففي الدنيا يثيب ثواب الشهيد كل من حضر القتال وإن لم يُقتل، أما الأخروية فيأمن عذاب القبر وهموم المحشر، وحقوق الناس عليه في الدنيا التي لم يقضها، فإن الله يُرضي الناس عنه، ويخلّصه منهم، أما إصلاح باله بعد الشهادة فمعناه: يُبلغه إلى غايته، وهي الجنة، كما قال الله تعالى عن الجنة على لسان أهلها: {الحمد لله الذي هدانا} (معارف القرآن).
(5) قال الإمام الرازي رحمه الله:
سيهديهم.. طريق الجنة من غير وقفة من قبورهم إلى موضع حبورهم. (التفسير الكبير)
فباختصار، تُغفر ذنوب الشهيد، وتَسلَم أعماله من الضياع، وسيكرمه الله بهداية خاصة، يقطع بها منازل الآخرة بنجاح، ولا يواجه صعوبة في منازل الآخرة الحرجة التي تحرج الناس، فليس يوم الآخرة بالنسبة له إلا يوم فرح وحبور. فيا سبحان الله.. وهل يريد مؤمن شيئا غيره.
اللهم ارزقنا شهادة مقبولة في سبيلك.
جنة معلومة معطرة:
ثم ذكر الجائزة الثالثة للشهيد فقال: {وُيدخلهم الجنةَ عرّفها لهم} ..
{عرّفها لهم}.. فيه أقوال للمفسرين:
(1) هو أن كل أحد يعرف منزلته ومأواه حتى إن أهل الجنة يكونون أعرف بمنازلهم فيها من أهل الجمعة ينتشرون في الأرض كل أحد يأوي إلى منزله. (التفسير الكبير) قال معناه مجاهد وأكثر المفسرين. (القرطبي)
وقال الآلوسي: يعرف أهل الجنة منازلهم بإلهام خاص من الله تعالى، ولا يحتاجون إلى دليل ولا هادي. (أي لا يعانون مشقة قليلة كالأجنبي يتحملها عادة) كما جاء في حديث:
«لأحدكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا».
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنه قال: بلغنا أن الملك الذي كان وُكِّلَ بحفظ عمل الشخص في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة، ويتبعه الشخص حتى يأتي أقصى منزل هو له، فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة، فإذا انتهى إلى أقصى منزله في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه. (روح المعاني)
وفي بعض الروايات أن حسناته تُرشده، وتُعرّفه بكل شيء. ورد في بعض الآثار أن حسناته تكون دليلا إلى منزله فيها. (روح المعاني)
وقيل: إنه تعالى رسم على كل منزل اسم صاحبه وهو نوع من التعريف. (روح المعاني)
(2) أن التعريف في الدنيا وهو بذكر أوصافها، والمراد أنه تعالى لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها..
                              والأذن تعشق قبل العين أحياناً
(3) {عرّفها لهم} أي طيّبها لهم.
وعن ابن عباس في رواية عطاء أي طيّبها لهم على أنه من العرف وهو الريح الطيبة ههنا. (روح المعاني) وقال ابن عباس: أي طيّبها لهم بأنواع الملاذ. (القرطبي)
(4) عرّفها لهم...أي وفّقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنّة. (القرطبي)
(5) عرّفها لهم... وقيل عرّف أهل السماء أنها لهم إظهارا لكرامتهم فيها. (القرطبي)
(6) عرّفها لهم.. وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته يقال حرير معرّف أي بعضه على بعض. (القرطبي)
(7) عرّفها لهم.. وقيل تعريفها، تحديدها يقال: عرف الدار وأرّفها أي حدّدها. أي حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة. (روح المعاني)
(8) عرّفها لهم..وقيل: أي شرّفها لهم ورفعها وعلاها على أن عرفها من الأعراف التي هي الجبال وما أشبهها. (روح المعاني)
(9) عرّفها لهم... قبل القتل فإن الشهيد قبل وفاته تعرض عليه منزلته في الجنة فيشتاق إليها.
(10) عرّفها لهم.. هو من باب تعريف الضالة، فإن الله تعالى لمّا قال: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} فكأنه تعالى قال: من يأخذ الجنة ويطلبها بماله أو بنفسه فالذي قتل سمع التعريف وبذل ما طلب منه عليها، فأدخلها. (التفسير الكبير)
(11) عرّفها لهم.. أي في الدنيا بالأنبياء والكتب والرسل، حتى عرفوها. (أنوار البيان)
كتبنا جميع الأقوال لنحثكم ونشوّقكم إلى الجنة وما أعدّ الله تعالى فيها من نعيم.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك..