{سورة الحج مدنية، الآية 40}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)}.
ملخص معاني الآية:
(1) الذين اُذن لهم بالجهاد أناس مضطهدون، اُخرجوا من ديارهم بغير حق، إلا أن قالوا ربنا الله.
(2) من إحدى مصالح الجهاد والقتال ومنافعه أنه كان حاميا لدين الحق ومقدساته في كل عصر وزمان، وهو حامي الإسلام ومساجده ومقدساته.
(3) ما من مسلم يخرج في سبيل الله لنصر دينه، إلا وينصره الله تعالى.
(4) إن الله قوي غالب.
لو لا الجهاد لتغلب الباطل على الحق:
لخّص القرطبي الآية الكريمة في الكلمات التالية:
«لو لا القتال والجهاد لتغلب على الحق في كل أمة».
وأضاف: «فمن استبشع من النصارى والصابئين الجهاد فهو مناقض لمذهبه، إذ لو لا القتال لما بقي الدين الذي يذبّ عنه». (القرطبي)
الجهاد من أحد أسباب استقرار الشرع:
قال القرطبي رحمه الله:
لو لا ما شرعه الله تعالى للأنبياء والمؤمنين من قتل الأعداء لاستولى أهل الشرك وعطّلوا ما بيّنته أرباب الديانات من مواضع العبادات، ولكنه دفع، بأن أوجب القتال ليتفرّغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع واجتمعت المتعبّدات. (القرطبي)
تفسير يسير للآية الكريمة:
«مشركوا مكة ما كانوا يعادون المسلمين ويؤذونهم ويجبرونهم على ترك ديارهم وأموالهم بمكة إلا لأنهم قالوا: ربنا الله، وحّدوا الله تعالى ولم يشركوا به شيئا، ما ألحقوا ضررا بأحد، وما ارتكبوا جريمة، وما كان ذنبهم في نظر المشركين إلا توحيدهم ونبذهم الشرك والأوثان. قال الله تعالى: {الذين اُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} ثم قال: {ولو لا دفع الله الناس..} أشار فيها إلى حكمة القتال والجهاد، وأكّد على أن الجهاد لم يشرع على هذه الأمة فقط، بل كان مشروعا بين الأمم كلها، والواقع إن الصراع بين الإسلام والكفر أزلي، تحتدم المعارك بين المسلمين والمشركين، ما من نبي إلا وحارب الكفار مع المؤمنين في عهده، فقضوا على شوكتهم وغلبتهم، ومن سنة الله تعالى في الكون أنه يدفع الناس بعضهم ببعض، وإلا لهُدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا، وكلهم كانوا على الحق في عهودهم، وقد جابهوا العتاة الكفرة الظالمين بجانب أنبياءهم، ولا يزال اليهود والنصارى يتواجدون بأعداد كبيرة، لكنهم من ضمن الكفرة لرفضهم نبوة محمد ·، ولا دين على الحق اليوم إلا الإسلام وأمة الإسلام، فالمسلمون فريق والكفار من اليهود والنصارى والمجوس فريق، إن تخلى المسلمون عن قتالهم لهُدّمت مساجدهم ومقدساتهم التي يُذكر فيها اسم الله كثيرا. كيف يصبر الكفار على أن يرفع المسلم النداء للصلوات الخمسة، ويشيّدوا مساجد، يُقيموا فيها الصلوات الخمسة. (جميع الكفار) يخافون من جهاد المسلمين، وبفضل جهادهم استطاعوا المحافظة على مساجدهم المنتشرة على ربوع الأرض، وتشهد نمواً بشكل مستمر من حيث الكيف والكم». (أنوار البيان)
الحكمة الثانية من وراء مشروعية الجهاد:
في الآية السابقة أشار إلى أحد أسباب مشروعية الجهاد، بأنه وسيلة للقضاء على هيمنة الظالمين وحماية المستضعفين. قال الكاندهلوي رحمه الله:
«المعنى أن الله تعالى أذن لأصحاب نبيه بالجهاد لأنهم كانوا مستضعفين في الأرض، ومواجهة الظالم مشروع في الأديان كلها، بل هي واجبة، يحق للحق أن يدحر الباطل متى وُجد، فإن رأى من المصلحة أن يقضي على الباطل قبل استفحاله فعل، فإنه من الحنكة والدهاء، ومن الضعف والغباء أن ينتظر حتى يهاجمه الباطل فيدافع عن نفسه. كان المسلمون ضعفاء بمكة، لا حيلة لهم ولا تدبير ولا سلاح ولا عتاد، كانوا أقل عدداً من المشركين، فأراد الله تعالى أن يُطمّنهم، فقال: أيها المسلمون لا تخوّفوا من إذن الجهاد والقتال، {واِنّ الله على نصرهم لقدير}. (معارف القرآن للكاندهلوي رحمه الله)
ثم ذكر حكمةً من حِكَم الجهاد وسببا آخر من أسباب مشروعيته في هذه الآية، بأنه وسيلة لحماية الدين ومقدساته من العبث على أيدي أعدائه. لاحظوا النص التالي:
«ذكر الله تعالى هنا سببا آخر من أسباب مشروعية الجهاد، فكما أن دفع ظلم الظالم كان سببا لمشروعية الجهاد، كذلك كانت مصلحة دينية من أحد أسباب مشروعيته، فإن الحكمة تقتضي غلبة دين الحق بيد الأنبياء وخلفاءهم على الأديان كلها، فإن لم يأذن بالجهاد لهُدّمت صوامع وبيع ومساجد يُذكر فيها اسم الله كثيرا. كما قال تعالى: {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلّمه مما يشاء. ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}. (البقرة 251). (معارف القرآن الكاندهلوي)
الجهاد من وسائل إقامة التوحيد:
لو لم تكن سنة الله دفع الظالمين العتاة بعضهم ببعض فإن مراكز التوحيد من المساجد والمراكز لنشر التوحيد وكذلك الصوامع والبيع التي كانت في يوم من الأيام  تمثل أهل الحق وتدعو إلى التوحيد الخالص، لقيت الفناء والزوال. ومن هنا عرفنا أن مشروعية الجهاد كان لأجل إقامة التوحيد. (التفسير الماجدي)
الوعد بالنصر لكل من جاهد في سبيل الله:
{ولينصرنّ الله من ينصره} ..
(1) قال الإمام الرازي رحمه الله: معنى هذه الجملة عند بعض المفسرين: من ينصره بتلقي الجهاد بالقبول نصرة لدين الله. (التفسير الكبير)
(2) فيه قيد النصر لنصر الله، إن الله ينصر من أخلص نيته، ولا يجاهد إلا لنصر دينه وتمكينه على الأرض وحمايته. لاحظوا النص التالي:
«وفيما تأتي بشارة بالتمكين شريطة الإخلاص في الجهاد، فقد قال تعالى: {ولينصرنّ الله من ينصره} بأن كان مخلصا في نيته لإعلاء كلمة الله من وراء الجهاد.
(3) في هذه الجملة وعد بتمكين المسلمين على الأرض، ففي التفسير المظهري: {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} أي قادر على نصرهم وتمكينهم، بحيث لا يقدر أحد على منعه، فيه تأكيد للوعد السابق.
الصوامع والبيع والصلوات:
لقد أكثر أهل العلم حول الكلمات الثلاث، وأقوى ما قيل فيها أن الصوامع للرهبان، وبيع كنائس للنصارى، وصلوات كنائس لليهود بالعبرانية. (الجلالين)
شبهتان:
(1) دلت الآية على أن الجهاد لم يُشرع إلا لتغليب الدين، لو لا الجهاد لتغلب الباطل على الحق. فإن قيل: لقد انتصر الباطل على الحق مراراً. أجاب عنه التهانوي وقال:
لا يقول قائل: قد ينتصر الباطل على الحق، وذلك لأن الغلبة بالقدر الذي لا يؤدّي إلى محو الحق من أصله لا تخلو عن حكمة، فهذا النوع من الغلبة للباطل على الحق قد تحقق. (أي لا يمكن محو الحق من أصله ببركة الجهاد).
(2) في الآية وعد بالتمكين لكل من خرج للجهاد في سبيل الله مخلصا نيته، لكن الباطل قد يتغلب على المجاهد، أجاب عنه التهانوي فقال:
«أي بالثبات والاستقامة يتغلب أهل الحق على الباطل في النهاية، والعبرة بالعاقبة، مثل المريض يمر بأحوال مختلفة أثناء العلاج، لكن النهاية إن كانت على العافية والشفاء، قالوا: العلاج ناجح».
ألوان النصر تتنوع للمجاهد، ليس من المهم ظهور النتائج الفورية، بل المهم هو حماية الدين، والذي يتحقق لا محالة، سواء ظفر المجاهد أو قُتل حسب الظاهر. (والله أعلم بالصواب)
درسان مهمان:
لقد توصلنا من خلال دراستنا للآية الكريمة إلى أمرين مهمين:
(1) الواجب على المسلمين الاهتمام بالجهاد والمشاركة فيه بأعداد كبيرة، وإحياءه في جبهات عدة.
(2) إن من سعادة المجاهد أنه لا يكون في جهاد ولا رباط في سبيل الله إلا ويثاب على حماية مساجد العالم بأسره. (والله أعلم بالصواب)