{سورة الحج مدنية، الآية 41}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)}.
ملخص معاني الآية:
بيان لأحوال المسلمين الذين تعرضوا للاضطهاد على أيدي المشركين، واُخرجوا من ديارهم وأوطانهم، والمعنى: لماذا لا ينصرهم الله تعالى وهم أمة إن مكّنهم الله تعالى على الأرض لم يغفلوا عن ذكره. (فإذنهم بالجهاد ونصرهم فيه في الحقيقة رحمة من الله على عباده، إذ بفضله تقوم حكومة عادلة على الأرض، يملؤونها بالأمن والاستقرار، هم رجال) شغلوا أنفسهم بالعبادات البدنية والمالية، ويسعون إلى تشغيل غيرهم فيها، فمكّنهم الله تعالى في الأرض، وتحققت التنبّؤات كما أخبر. فلله الحمد على ذلك. دلت الآية الكريمة على مناقب الصحابة من المهاجرين والأنصار، خاصة الخلفاء الراشدين، وعلى صدقهم وقبولهم عند الله. {ولله عاقبة الأمور} أي يبدو لنا غلبة الكفار وضعف المسلمين اليوم، لكن الأمور بيد الله، وسوف يجعل المؤمنين ينتصرون على أعدائهم. أو المعنى أن الأمة تقيم دين الله إلى أجل، ثم الأمر بيد الله.
أهم مباحث الآية الكريمة:
(1) يسمّي المفسرون هذه الآية بآية التمكين، مثل الآية 55 من سورة النور تسمّى بآية «الاستخلاف». والآيتان تنصان على خلافة الخلفاء الراشدين وصدقهم وكونهم على الحق.
(2) هل الآية مرتبطة ب {الذين اُخرجوا} أو {من ينصره} قولان للمفسرين، ثم ذكروا تفاصيلهما.
(3) هل الآية نزلت في جميع أفراد الأمة، أم في المهاجرين من الصحابة، أم في جميع الصحابة. أقوال أوردها علماء التفسير.
(4) ما هي مسئوليات الحاكم المسلم؟ سلّط المفسرون الأضواء عليها.
(5) هل هذه الصفات بمثابة قيد للنصر والتأييد، بأن الله لا ينصر في الجهاد إلا من كان يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.. هذا ما قاله الضحاك. راجع لكل ما ذكرنا من المباحث : التفسير القرطبي والتفسير الكبير وروح المعاني ومعارف القرآن للكاندهلوي وغيرها.
نحن نكتفي في تأليفنا هذا على بعض النصوص المهمة لتوضيح مغزى الآية، وهي تضم ملخص المباحث التي أسلفناها.
تفسير يسير:
«ثم ذكر الله تعالى صفات أولئك الذين اُخرجوا من مكة، وبعدما آل إليهم الحكم خدموا الدين، أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، عملوا بالدين بأنفسهم، وعمل غيرهم بأمرهم، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاهتموا بالإثنين. وكان في مقدمة هؤلاء المذكورين الخلفاء الراشدون. اُخرجوا من مكة، فقاموا بجملة الأعمال التي أشارت إليها الآية الكريمة. ففي التفسير لابن كثير 3/226 قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: هذه الآية نزلت فيّ وفي أصحابي، فقد اُخرجنا من ديارنا وأوطاننا بغير حق، إلا أن قلنا ربنا الله، ثم مكنّنا الله في الأرض، فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر.
دلت الآية الكريمة على أن ما من مؤمن يمكّنه الله تعالى في الأرض إلا ومن مسئولياته إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الناس في هذه الأيام يستلمون السلطات في البلاد الإسلامية، فلا يصلون ولا يؤتون الزكاة، ولا يهتمون بتطبيق فروض الإسلام بين الناس، ولا ينهون عن المنكر. بل يتجاوزون الحدود فيستخدمون وسائل الإعلام المتنوعة لنشر المعصية والرذيلة بين المسلمين، ثم يتخوّفون من العوام أنهم قد لا يرضون به إن نهاهم عنها، ويتهمونه بالرجعية، ويعزلونه من منصبه. ثم قال : {ولله عاقبة الأمور} العهد الإسلامي الأول كان مليئا بالمآسي والآلام، فاضطروا إلى هجر مكة، ثم عادوا إليها ظافرين منتصرين، ثم مكّنهم الله تعالى على الأرض، وبسطوا سلطانهم على منطقة شاسعة من البسيطة، ولا زالوا يسيطرون على أجزاء واسعة من الأرض، رغم عدم اهتمامهم بمقتضى التمكين والسلطان، ولله عاقبة الأمور، فقد أكرم على المؤمنين ليتقدّموا، ومنحهم القوة والسلطة، فصلحت عاقبتهم مقابل الكفار، ولاشك أن عاقبة كل مؤمن خير. فلله الحمد والمنة». (تفسير أنوار البيان)
الأمور الأربعة التالية من أساسيات الحكم في الإسلام:
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
وقال الضحاك: هو شرط شرطه الله عزوجل على من آتاه الملك. (القرطبي)
(1) إقامة الصلاة.
(2) إيتاء الزكاة.
(3) الأمر بالمعروف.
(4) النهي عن المنكر.
قال المفسرون:
بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إشارة إلى تطبيق جميع أحكام الإسلام، وبالأمر بالمعروف إلى إحياء العلوم الدينية، وبالنهي عن المنكر إلى إقامة الجهاد، وأخذ الجزية من الكفار، وتنفيذ الحدود الشرعية.
أرجو الملاحظة من الإخوة المجاهدين:
في الآية السابقة قال {ولينصرن الله من ينصره} وفي هذه الآية أشار إلى صفاتهم، فالواجب على الإخوة المجاهدين القيام بالأمور الأربعة المذكورة، وأن يعزموا على الاهتمام بها إن مكّنهم الله تعالى في الأرض.
فهذا باب فتح نصر الله، ومن اليوم يجب على المجاهدين أن يُصلحوا نياتهم بأنهم لا يحاربون إلا لأجل دين الله، ولا يهمهم إلا رضا الله، ثم عليهم القيام بالأمور الأربعة المذكورة، إن فعلوا ذلك نصرهم الله نصرا مؤزّرا، وتقوم الخلافة على الأرض. (والله أعلم بالصواب)
وهذه عبارة صاحب التفسير الحقاني، وهي خير دليل للمجاهد:
من نصر الله أي دينه، وأيّد أنبياءه، نصره الله، ثم أشار إلى بعض صفاته بأنه إن نصره الله وتمكن من فرض سلطانه عليها أقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر. والمعنى أن ما من قوم مكّنهم الله على الأرض بفضل تأييدهم لدين الله تعالى فما عليهم إلا تطبيق الأمور الأربعة المذكورة، دون الاهتمام بنشر الرذيلة والمعصية والفسق والفجور، لأن الغرض الإلهي من تمكينه على الأرض لم يكن إلا أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو الناس إلى عبادة الله وإقام الصلاة ويبسط العدل على الأرض». (التفسير الحقاني)
سمات الحكم الإسلامي:
تحدث صاحب التفسير الماجدي عن الآية الكريمة بما تأتي:
«هذه هي السمات الأصلية والحقيقية للحكم الإسلامي، إن آل الحكم إلى الملسمين الصادقين، امتلأت المساجد بالمصلين، ودوّى صوت التكبير والتهليل بأنحاء البلاد، لا وجود للجائع العاري بعد إنشاء بيت مال المسلمين، وأضحت المحاكم توفر العدل بدلاً من أن تبيعه، وزالت المساوي الخلقية من الارتشاء والتزوير والحلف الكاذب، والغيبة والمعاصي والرذائل والسرقات والقتل وقطع الطريق. إدارة المياه لا تجد من تقدم لها المال، وتقلبت الدنيا أمام المصارف الربوية والسمسار آكل السحت والقصور الظالمة. المطربون والراقصات إن لم يعلنوا توبتهم طُردوا من البلاد، اُشعلت النيران في دور السينما والمسارح ومراكز الخليعة. حلت الآداب الطاهرة الزكية محل الروايات الإباحية الماجنة الفاحشة، وباختصار تحولت الدنيا إلى الجنة رغم بقائها في هذا العالم.
استدل المحققون بالآية الكريمة على صحة إمامة وإمارة الخلفاء الراشدين، بأن الأمور التي أشارت إليها الآية قد تحققت في عهود الخلفاء الراشدين المهاجرين الذين تنطبق عليهم الآية: {الذي اُخرجوا من ديارهم وأموالهم}.
قال الجصاص رحمه الله:
«وهو صفة الخلفاء الراشدين الذين مكنهم الله في الأرض وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وفيه الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكنوا في الأرض قاموا بفروض الله عليهم». (الجصاص). (الماجدي)
نص مهم:
لاستيعاب مباحث الآية الكريمة المهمة لاحظوا النص الآتي، فإنه سوف يساعد في وعي كثير من مطالبها ومعانيها:
«هذه الآية تسمّى بآية التمكين، لِما فيها من الوعد بالتمكين على الأرض إلى أصحاب رسول الله · المتواضعين، وفيها إشارة إلى الخلافة الراشدة التي هي عبارة عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أي الولاية إلى جانب الحكومة. صفات «أهل التمكين» التي وردت في هذه الآية معناها: إن هؤلاء الذين اُذن لهم بالجهاد في سبيل الله سوف يمكّنهم الله في الأرض، يقيمون الدين. فهي دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، فقد كان الأربعة من المهاجرين الأوائل، مكّنهم الله تعالى من الأرض كما وعدهم به، واتصف الأربعة بالصفات المذكورة على وجه الكمال. أو ليس من كمال المرء أن يطيع ربَّه ويجمع في نفسه الصفات الأربعة المذكورة؟ اعلموا أن الخلافة الراشدة تنقسم إلى قسمين: الأول: التمكين في الأرض، أي الحكم والسلطان. والثاني: إقامة الدين، أي تطبيق أحكام الشريعة وتنفيذها التي هي من أهم مقاصد بعثة الأنبياء عليهم السلام، فالمقصود الأصلي الدين، والحكومة خادمة له. لذلك لمّا أشار الله تعالى إلى صفات أهل التمكين بعد تمكينهم على الأرض، قال: {أقاموا الصلاة وآتوُا الزكاة} فيه إشارة إلى إقامة كافة شعائر الدين. ثم قال: {وأمروا بالمعروف} فيه إشارة إلى إحياء العلوم الدينية. ثم قال {ونهوا عن المنكر} فيه إشارة الجهاد مع الكفار وأخذ الجزية، لأن الكفر أكبر منكر على وجه الأرض، كما أن اللفظ يشير إلى إقامة الحدود والتعازير على المسلمين، والمعنى أن هؤلاء بعد ما يمكّنهم الله تعالى في الأرض تقيّدوا بأحكام الشرع، ويقيّدون الآخرين بواسطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي الأخير قال: {ولله عاقبة الأمور} والمعنى أن النتيجة بيد الله، لأنكم لا تدرون النتائج التي تترتب على الجهاد، وما هي الثمار والبركات التي تتفرع منه؟ كما أن فيه إشارة إلى أنكم لا تنظروا إلى الأحوال الطارئة والهزيمة الوقتية، بل {العاقبة للمتقين} مثل المريض تتغير حالاته، لكن نهايته العافية والصحة. وعلى كل حال فالتمكين في الأرض وعد من الله، نزل من العرش، ومن المستحيل أن لا يتحقق، ولا يقدر أحد على غصب الوعد الإلهي المذكور، فإن الله كفل بوفائه بنفسه، الذي تحقق على يد الخلفاء الراشدين. إن وعد الله لا يمكن خلافه ولا مخاصمته ولا السيطرة والهيمنة ولا الغصب والخيانة». (معارف القرآن للكاندهلوي).
في الجمل الأخيرة أراد الرد على الروافض، كما فعل مثله كثير من المفسرين من الرد عليهم.
المراد منها الأمة بأكملها:
قال الحسن البصري وأبو العالية: المراد من الآية أمة محمد · بأكملها.
«وقال عكرمة هم أهل الصلوات الخمس. وقال الحسن وأبو العالية: هم هذه الأمة إذا فتح الله عليهم أقاموا الصلاة». (القرطبي)
فالواجب على المسلمين أن يخرجوا من بيوتهم للجهاد في سبيل الله، ويخلصوا نياتهم لله، ونصر دينه، ويهتموا بالصلاة والزكاة والصوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياتهم الفردية والجماعية، ويعزموا على أنه إن مكّنه الله تعالى على الأرض قاموا بتلك الأمور التي صرّح بها الله تعالى في الآية المذكورة، إن كان كذلك فإن الله سينصرهم، وسوف تقوم خلافة إسلامية على وجه الأرض. بإذن الله تعالى
وللأسف الشديد، فإن المسلمين الذين يهتمون بالصلاة والزكاة لا يهتمون بالجهاد، ولا يخرجون له، والذين يخرجون للجهاد في سبيل الله لا يهتمون بالعبادات كثيرا، ولا يطبّقون الأنظمة الشرعية للمنظمة التي ينتسبون إليها، وهكذا لا يكتمل المنهج الكامل للنصر الإلهي، وظل المشركون يهيمنون على العالم بأسره. وإلى الله المشتكي.
اقرءوا الآيات الخمس من سورة التوبة بكل عناية واهتمام، من الآية 38 إلى 41، سوف تفهمون الأمور التي أشرنا إليها. والحمد لله على أن ما من مسلم يجاهد اليوم في سبيل الله بكامل إخلاصه، إلا ونصره الله، فقد شاهدنا ذلك بعيون مشكوفة، والمهم أن تهتم الأمة بأكملها بالجهاد. (والله أعلم بالصواب)