بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) }.
ملخص معاني الآية:
فإن عوتب المنافقون على الاستهزاء
والسخرية قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، ولم نفعل ذلك بالجد، فقل لهم : هل تستهزءون
بالله وبآياته ورسوله؟ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم، وسوف تعاقبون عليه، إلا
من تاب وآمن وصدق في إيمانه فإن الله يتوب عليه.
سبب النزول وتفسير مختصر:
هذه الآية نزلت بشأن غزوة تبوك،
لقد انتهج المنافقون استهزاء الجهاد منذ القِدم، يزعمون الكفار أقوياء لا ينهزمون،
وفي غزوة تبوك خرج بعض المنافقين مع المسلمين، وظلوا يسخرون بالدين والجهاد
والإسلام والمسلمين، وقد سرد المفسرون عدداً من القصص التي ورد فيها ذلك، وفيما
يلي لاحظوا خلاصتها:
«قال عبد الله بن وهب: أخبرني
هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس
ما رأيت مثل قُرائنا هؤلاء، أرغبَ بطونا، ولا أكذبَ ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء. فقال
رجل في المسجد: كذبتَ، ولكنك منافق. لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: وأنا رأيته متعلقا
بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تَنكُبُه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله،
إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: { أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ
وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ }
فكانت أقوالهم هذه - التي ما قصدوا
من ورائها إلا ترويع المسلمين، وإضعاف معنوياتهم - لما عُرضت على رسول الله ·،
أرسل إليهم وسألهم عنها، فقالوا: كنا نخوض ونلعب ونروّح أنفسنا في هذا السفر الذي
واجهنا فيه مشقة عظيمة، فقال الله تعالى: {قل اَ بالله وآياته ورسوله كنتم
تستهزءون} والاستهزاء بالله وآياته ورسوله وأحكامه يُفضي إلى الكفر بالله إن كان
من باب التفرّج واللعب، فما بال من يفعل ذلك بنية فاسدة لخبث باطنه مثل المنافقين؟
لا يغني عنهم حِيَلُهم الكاذبة التي يتسترون وراءها، وسوف يلقون عقابهم عليه، إلا
من تاب وآمن وأخلص نيته، فإن الله يتوب عليه. (التفسير العثماني بتسهيل)
«وقال قتادة: فبينما النبي · في
غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: يظن هذا أن يفتح قصور الروم
وحصونها، هيهات هيهات، فأطلع الله نبيه · على ما قالوا، فقال: عليّ بهؤلآء النفر،
فدعاهم فقال قلتم كذا وكذا فحلفوا ما كنا إلاّ نخوض ونلعبش». (ابن كثير)
الاستهزاء
بالدين كفر:
قال الرازي رحمه الله:
إن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر
بالله. (التفسير الكبير) (التفسير الحقاني)
تحذير إلى شعراء اليوم والأدباء:
وفي التفسير الماجدي:
(كان المنافقون يقولون: إنما كنّا
نخوض ونلعب) هذا النوع من العذر نراه قد وجد رواجاً كبيراً بين الناس اليوم، ما
مدى الاستهزاء الذي يرتكبه الشعراء والأدباء في ثنايا أبياتهم وقصائدهم بالله
ورسوله وشريعته وملائكته والحور، فإن سُئلوا أجابوا بالجواب المذكور، قالوا: كنا
نخوض ونلعب، ولم يكن ما قلنا إلا لتحلية البيان وتجميله، ولم يكن الغرض منه
الإساءة إلى الدين. (فردّ الله تعالى على هؤلاء المنافقين) وقال: قد يكون غرضكم
اللعب والتفرّج، لكنكم لاحظتم أنكم لا تستهزءون إلا بالله وآياته ورسوله، هل هناك
مساغا للاستهزاء بهم؟ وشعراء اليوم ليس واحد أو اثنان منهم يفعل ذلك، بل المئات
يسخرون بالله وبالرسول، وعليهم أن يراجعوا أفعالهم وأعمالهم وأقوالهم. وقد أشار
أهل العلم من الفقهاء وغيرهم إلى أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله سواء في الحكم
وهو الكفر، ولا يقل الاستهزاء بأحدهما عن الآخر سوءاً وخبثاً.
دلّ على أن الاستهزاء بآيات الله
وبشيء من شرائع دينه كفر فاعله. (جصاص)
كما أشار الفقهاء إلى أن الاستهزاء
سواء كان من باب الجد أو الهزل، لا يختلف باعتبار الحكم الشرعي، لأن القرآن أنكر
عليهم في قولهم: {إنما كما نخوض ونلعب} لذلك ينطبق عليهم حكم الكفر، اللهم إن كان
قد اُجبر عليه، فحكمه يختلف.
«فيه الدلالة على أن اللاعب والجاد
سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه» (الجصاص) و(التفسير الماجدي).
المنافقون
يخافون المشركين عادة:
لا يؤمن المنافق بصدق الإسلام، كما
لا يؤمن بنصر الله في الجهاد، لذلك يعتبره من المستحيلات في كل عصر وزمان، إذ
زُينت قوة الكفر والشرك على عينيه، حتى خالها لا تُقهر، فالمنافقون كانوا ينظرون
إلى الفُرس والرومان بالنظرة التي يرى الناس اليوم أمريكا وأوروبا وروسيا، فالجهاد
من المستحيلات في نظر المنافق بالأمس واليوم. اللهم احفظ أمة الإسلام عن النفاق
والمنافقين. آمين
ذكر
رجل سعيد:
لقد ذكر المفسرون رجلا سعيدا عند
تفسير هذه الآية، واسمه «مخشي بن حُميِّر الأشجعي» رضي الله عنه.
قال ابن إسحاق: وقد كان جماعة
من المنافقين منهم وَديعة بن ثابت، أخو بني أمية بن زيد، من بني عمرو بن عوف، ورجل
من أشجع حليف لبني سلمة يقال له: مُخَشّن بن حُميّر يشيرون إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جِلادَ بني الأصفر كقتال العرب
بعضهم بعضا؟ والله لكأنا بكم غدا مُقَرّنين في الحبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين، فقال
مُخَشّن بن حُمَيّر: والله لوددتُ أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منا مائة جلدة، وإما
نَنْفَلتُ أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -فيما
بلغني -لعمار بن ياسر: "أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا
فقل: بلى، قلتم كذا وكذا". فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
واقف على راحلته، فجعل يقول وهو آخذ بحَقَبها: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب،
[فأنزل الله، عز وجل: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ } ] فقال مُخَشّن بن حُمّير: يا
رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي. فكان الذي عفى عنه في هذه الآية مُخَشّن بن حُمّير،
فتسمى عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا
لا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر. (روح المعاني، المظهري، قرة
العينين)
قال القرطبي رحمه الله:
كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان، وضحك
واحد، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. (القرطبي)
ثم قال:
إنه استُشهد باليمامة، وكان تاب
وسمّى عبد الرحمن، فدعا الله أن يُقتل شهيدا ولا يعلم بقبره. واختُلف هل كان
منافقا أو مسلماً، فقيل كان منافقا ثم تاب توبة نصوحا، وقيل: كان مسلما إلا أنه
سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم.
(بيان القرآن)
مرتبة
الشهادة العليا:
لقد أدرك صحابة رسول الله · منزلة
الشهادة العالية، أدركوا أن الشهادة في سبيل الله توبة وكفارة للمعاصي مهما بلغت
في الكبر والعظمة. (والله أعلم بالصواب)
نكتة
مهمة:
المنافقون الذين ورد ذكرهم في هذه
الآية الكريمة كانوا قد سخروا بالجهاد، وسخروا بالدين على أساس الجهاد، مثلهم يفعل
العلمانيون وأصحاب الأفكار النيّرة اليوم، يسخرون بالدين وأهله على أنه يحث على
الجهاد، كما عرفنا من سبب نزول الآية الكريمة أن الاستهزاء بالجهاد هو الاستهزاء بالدين،
والاستهزاء بالدين كفر. والله أعلم بالصواب.