بسم الله الرحمن الرحيم
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)}.
ملخص معاني الآية:
(1)كان المنافقون يعتبرون من
دهاءهم وسعادتهم التخلف عن الجهاد، ويسرون به.
(2) كانوا يمتنعون من بذل أموالهم
وأرواحهم في الجهاد، ويجتنبون عنه.
(3) كانوا يمنعون الناس من الجهاد
لما فيه من الأضرار الجسدية والمادية.
(4) المنافقون أغبياء، لا يعلمون
أنهم بسبب تخلفهم عن الجهاد سوف يدخلون نار جهنم، ويخلدون في العذاب الأليم، لذة
الدنيا الفانية مع العذاب الأبدي في الآخرة والحزن.
تفسير
يسير:
«هذا بيان لأحوال أولئك المنافقين
الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، يتسارعون إلى المعاصي والمعايب، ويفرون من المحاسن،
ينتقدون المطوّعين كما سبق بيانه، ويتسكعون عليهم، فكيف يغنيهم استغفار النبي ·
لهم. ومن هنا عرفنا الفرق بين العاصي والكافر سيء العقيدة، إذ ما من معصية إلا
وتزول بدعاء الرسول ·».
{ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك
فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّابا رحيما} (النساء) لكن من كان
سيء العقيدة، لم ينفعه استغفار النبي ·، ولو كان سبعين مرة.
{لا تنفروا في الحر} إما كانوا
يقولون ذلك فيما بينهم، أو للمؤمنين، حتى تحبط معنوياتهم.
{لو كانوا يفقهون} أي لو كانوا
يفقهون لأدركوا أنهم يفرون من حرّ الدنيا إلى لهيب نار الآخرة التي هي أشد حراً،
مثله كمن فرّ من المطر، ووقع تحت الميزاب. ونار جهنم أشد حراً من نار الدنيا بتسع
وستين درجة، كما جاء في حديث. أعاذنا الله منها. والمعنى افرحوا قليلا بأفعالكم
وأعمالكم، واضحكوا قليلا، فإنكم سوف تبكون طويلا في نار جهنم». (التفسير العثماني)
الأشقياء
الذين طُردوا من الجهاد:
كلمة {المخلَّفُون} تدل على من
طُرد وخُلّف، (بصيغة المفعول). فمن خلّفهم من الجهاد؟ قال الآلوسي رحمه الله:
«أي الذين خلّفهم النبي · وأذن لهم
في التخلف أو خلّفهم الله تعالى بتثبيطه إياهم لحكمة علمها أو خلفهم الشيطان
بإغرائه أو خلفهم الكسل والنفاق». (روح المعاني)
اجتمعت الأسباب المذكورة بسبب
نياتهم السيئة وشقائهم، فقد أغرهم الشيطان، وأبعدهم الكسل والنفاق عن الخير، إضافة
إلى ذلك فإن النبي · أذن لهم في التخلف، إذ لم يكن في خروجهم مع المسلمين إلا خلق
المشاكل والاضطرابات في صفوف المجاهدين. والأكبر من ذلك كله أن الله لم يقدّر لهم
الخروج لنفاقهم. (والله أعلم بالصواب)
نار
جهنم لمن خالف أمر الله:
{قل نار جهنم أشد حرا} وأنتم
اخترتم نار جهنم بمخالفتكم لأمر الله بالجهاد في سبيله، فأنتم أغبياء، لم تصبروا
على تعب ساعة، واخترتم البقاء الأبدي في العذاب الأليم، فهل هذا من العقل في شيء.
(التفسير المظهري)
وفي تفسير الجلالين:
{قل نار جهنم أشد حرا} من تبوك،
فالأولى أن يتقوها بترك التخلف. (الجلالين)
عاقبة
التخلف عن الجهاد:
إلى هنا كان بيانا للمتخلفين عن
الجهاد في سبيل الله، والآن يشير إلى عواقب التخلف عن هذه الفريضة العظيمة، وأكّد
على أن ترجيح مصالح شخصية على مصلحة الأمة والعمل بما يزعزع معقل المسلمين يعود
بعواقب وخيمة على الجميع.
«فمن تخلف عن الجهاد عمداً، فقد
قصّر في القيام بهذه الفريضة، لكنه سعى إلى إغواء الآخرين بأن الحر شديد، تشوي في
لهيب نار الجزيرة العربية، أولى بك أن لا تخرج. تخلّوا لكنهم لم يدركوا أنهم
يخدعون المسلمين في موقع حرج كهذا، كانوا يثقون فيكم قبل ذلك، لكن التخلّف عن
الجهاد بحجة شدة الحرارة لا يدل إلا على خلو القلب من الإيمان، فلو صبروا وتحملوا
مشقة الحر، لما اقترفوا جريمة التخلف، وبالتخلف أوجبوا على أنفسهم نار جهنم..»
(تفسير الفرقان)
معنيي
الخلاف:
{خلاف رسول الله} له معنيان على
العموم:
(1)
بعد رسول الله ·.. أي المتخلفون
فرحوا في قعودهم بمنازلهم بعد توجه النبي · إلى تبوك.
(2) في مخالفة
رسول الله · .. أي الذين تخلفوا عن الغزو فرحوا على مخالفتهم لأمر رسول الله ·.
وفي التفسير الماجدي:
«خلاف» أي بعد.
«أي خلاف (كشاف) بمعنى بعد وخلف
(روح) قال الأخفش: إن خلاف بمعنى خلف، وإن يونس رواه عن عيسى بن عمرو، ومعناه بعد
رسول الله ·. (التفسير الكبير)
وله معنى آخر، وهو «المخالفة».
«قيل هو بمعنى المخالفة (كشاف،
روح) يعني مخالفة برسول الله ·. (كبير عن قطرب وزجاج) (التفسير الماجدي)
كانوا
يترددون في صدق الجهاد:
قال جُد بن قيس (المنافق) لجبار بن
منحر وغيره من أصدقائه من بني سلمة: لا تخرجوا في هذا الحر، لم يكن جُد يرغب في
الجهاد، إذ كان مترددا في صدقه، يسعى إلى نشر أفهام خاطئة بشأن النبي ·، لذلك منع
الناس من الجهاد بحجة الحر الشديد، فأنزل الله تعالى: {قل نار جهنم أشد حرا}.
(المظهري)
بكاء
أهل النار:
و عن عبد الله بن قيس (وهوأبو موسى
الأشعري رضي الله عنه) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « إن أهل النار ليبكون
حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت ، وإنهم ليبكون
الدم يعني مكان الدمع » (رواه الحاكم في المستدرك 4/605 وقال هذا حديث صحيح
الإسناد وأقره الذهبي)
إعجاز
القرآن:
{فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا}
لخّص القرآن حياة المنافق وقصته في جملتين، وقال: إن المنافق من يضحّي بالراحة
الأبدية مقابل سرور ونعمة يسيرة آنية، يفضّل شدائد سرمدية على تعب يسير، يريد أن
يقضي حياة الدنيا بالمرح والترح والحرية، طليقا من الصلاة والجهاد وأوامر الشرع
ونواهيه، لا يريد إلا الفرح والضحك والسرور والتلذذ بعيش الرغد، لكنه ليس له في
الآخرة إلا الحزن والغم والبكاء، وهذا هو ملخص حياة المنافق، ضحك يسير ثم بكاء لا
ينقطع. (أعاذنا الله منه) (والله أعلم بالصواب)
وقال الإمام النسفي رحمه الله:
أي فليضحكوا قليلا على فرحهم
بتخلفهم في الدنيا ويبكون كثيرا جزاء في العقبى، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر
للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره، يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر
الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم. (المدارك)