{سورة المنافقون مدنية، الآية 8}


{بسم الله الرحمن الرحيم}

{يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}.

ملخص معاني الآية:

(1) المنافق يسعى إلى زرع بذور الفتنة بين المؤمنين على أسس عرقية ووطنية.
(2) المنافق بسبب غباءه وجهله لا يُدرك مقاييس العزة والذلة الحقيقية، بل يحسب حطام الدنيا مقياسا حقيقيا للعزة والذلة. والواقع إن العزة لله جميعا، يُعزّ من يشاء ويُذلّ من يشاء، يُعزّ رسوله والمؤمنين، إذ العزة لا تحصل بدون الإيمان بالله ورسوله، ولكن المنافقين لا يعلمون.
(3) المنافقون لا يألون جهدا في إجهاد المؤمنين وإتعابهم كلما سنحت لهم الفرصة، كما انتهز ابن ابي بن سلول الفرصة ليقول: ليخرجن الأعز منها الأذل.

تفسير سهل:

«أي لا يدري المنافق لمن العزة والقوة، فاعلموا أن العزة الحقيقية لله تعالى، ثم لرسوله · ثم للمؤمنين على قدر ارتباطهم مع ربهم، وقد جاء في الروايات أن .. عبد الله بن أُبيّ وصل قريبا من المدينة، فلما أراد أن يدخلها جاءه ابنه عبد الله بن عبد الله حتى أناخ على مجامع طرق المدينة، فلما جاء عبد الله بن أبي قال: وراءك، قال: مالك ويلك؟ قال: لا والله لا تدخلها أبدًا إلا بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتعلمن اليوم من الأعز من الأذل، فشكا عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع ابنه، فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن خلِّ عنه حتى يدخل، فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فنعم، فدخل.
ولتفصيل القصة ارجعوا إلى ابن كثير.
وقال اللاهوري:
«هؤلاء المنافقون كانوا يعادون ذات الرسول · وبقاءه بين أظهرهم». (حاشية اللاهوري)

وهم المنافقين:

قال القرطبي رحمه الله:
«توهّموا أن العزة بكثرة الأموال والأتباع، فبيّن الله أن العزة والمنعة والقوة لله». (القرطبي)
قال الشيخ أشرف علي التهانوي رحمه الله:
«المنافقون لا يدركون الحقائق، يظنون أن الأمور الفانية هي مناط العزة». (بيان القرآن)
أي يحسبون أن مدار العزة والذلة حطام الدنيا الفانية، ولا يعلمون أنه لا عزة في الشيء الذي يفارق المرء بعد وفاته، إنما العزة فيما ينفعه في الدنيا والآخرة. (والله أعلم بالصواب)

الفتوح الإسلامية عزة المسلمين:

قال الإمام البغوي رحمه الله:
«فعزة الله قهره من دونه، وعزة رسوله إظهار دينه على الأديان كلها، وعزة المؤمنين نصر الله إياهم على أعدائهم». (البغوي)
في قهر العدو عزة المؤمن في الدنيا، وسبب للأجر ورفع درجاته في الآخرة، لاحظوا عبد الله بن ابي بن سلول توفي عقب ذلك الحادث، وظل ملعونا على ألسنة الناس، أما في البرزح فيتعرض لما يتعرض، لكن المسلمين الذين كان يحسبهم أذلاء، صاروا حكام الأرض، ولهم في الآخرة النعيم والسعادة، كما أن لهم الثناء الحسن على لسان ملايين البشر إلى يوم القيامة.
قال الخازن رحمه الله:
قال أصحاب السير: فلما نزلت هذه الآية في عبد الله بن ابي بن سلول لم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات على نفاقه. (الخازن)
وهذا هو الأصل المتّبع إلى يوم القيامة، ما من رجل أخلص إيمانه لله تعالى إلا أكرمه الله وأعزه.

ما قالته امرأة مسلمة:

وفي تفسير المدارك وروح المعاني:
«وعن بعض الصالحات وكانت في هيئة رثة: ألستُ على الإسلام وهو العز الذي لا ذُل معه، والغنى الذي لا فقر معه». (المدارك)
هناك أناس يدّعون الإسلام، ويسمّون الكفار «بالمجتمع الدولي» ويهينون المسلمين ومجتمعاتهم، هؤلاء لم يفهموا القرآن كما فهمت هذه المرأة الصالحة.
«وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رجلا قال له: إن الناس يزعمون أن فيك تيهاً، قال: ليس تيه ولكن عزة، وتلا هذه الآية». (المدارك)

شرف كبير للمسلمين:

قال الآلوسي رحمه الله:
«وفي الآية الدلالة على شرف المؤمنين ما فيها». (روح المعاني)
العزة والخيلاء متقاربتين في الظاهر، لكن بينهما فرقا واضحا، ذكره بالتفصيل صاحب روح المعاني والتفسير الكبير، وعلى الراغبين مراجعتهما.

ضابط العزة والذلة المحسوم:

قال الإمام النسفي رحمه الله:
«ولمن أعزه الله وأيّده من رسوله ومن المؤمنين وهم الأخصاء بذلك كما أن المذلة والهوان للشيطان وذويه من الكافرين والمنافقين». (المدارك)

حبس النفقات إضرار بالنفس:

نقل الآلوسي قول الراغب التالي:
«وعن الراغب معنى قوله تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا}..الخ إنهم يأمرون بالإضرار بالمؤمنين وحبس النفقات عنهم، ولا يفطنون أنهم إذا فعلوا ذلك أضرورا بأنفسهم فهم لا يفقهون ذلك ولا يفطنون له». (روح المعاني)

درس مهم:

توصلنا من خلال دراستنا للآيتين 7 و 8 من سورة المنافقين أن المنافقين يسعون إلى تفريق وحدة المسلمين برفع شعارات القومية والوطنية، فالواجب على المسلمين عموما وعلى الإخوة المجاهدين خصوصا الحذر من مثل هذه الشعارات، فإنها منتنة، وعليهم مطاردة أولئك الذين يسعون إلى نبذ الفُرقة بينهم بتفعيل تلك الشعارات، وفي حال وقوع حادث رُفع فيه شعار قومي أو عرقي، فإن الواجب على الجميع العمل بما يُنهي آثاره المدمرة. (والله أعلم بالصواب)