{سورة التوبة مدنية، الآية 91، 92}


بسم الله الرحمن الرحيم
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) }.
ملخص معاني الآيتين:
(1)  هؤلاء ثلاثة أصناف من الناس، لا حرج عليهم إن قعدوا عن الجهاد، فقد عذّرهم الله تعالى :
(أ) الضعفاء كالمسنين والعُميان والأعرج وغيرهم. (ب) المريض الذي يمنعه مرضه من الخروج للقتال في سبيل الله. (ج) الفقير الذي لا يجد وسيلة السفر وآلة القتال. لا حرج على المذكورين. شريطة أن يخلصوا إيمانهم لله ورسوله، وله علامات، منها:
(*) صدقهم في إيمانهم وإقرارهم، إضافة إلى اندفاعهم نحو المشاركة في الجهاد، رغم عدم مقدرتهم على الخروج للأعذار، وكانت من نياتهم أنهم إن لم تكن معهم أعذار لخرجوا للقتال.
(*) أثناء قعودهم في بيوتهم لا يقوموا بما يتسبب أضراراً للجهاد، وأن ينحصوا للجهاد والمجاهدين، ولا يُضعفوا معنويات المجاهدين ولا يقوموا بنشر الشائعات والأرجاف بين المسلمين.
(*) أثناء قعودهم عن الجهاد يسعوا إلى بذل ما بوسعهم لإراحة المجاهدين ونصر الجهاد.
(2) لا حرج على أولئك الذين لا يجدون وسائل السفر وآلة القتال إن كانوا متحمسين للجهاد ومندفعين إليه، ويعودون إلى بيوتهم وعيونهم تفيض من الدمع بالبكاء.
عبارة رائعة:
لاحظوا فيما يلي النص الذي يساعدكم في وعي تفسير الآيتين الكريمتين، وفيه استعراض لمجمل فوائد أهل العلم:
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} بأن صدقوا في إيمانهم وإقرارهم وتصديقهم وتحمسوا للجهاد، ولم يقدروا على المشاركة لعذر، مع نية المشاركة فيه إن توفرت لديهم الأسباب وارتفعت الموانع.
ثم قال: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ }. ففي البداية والنهاية 5/5 أن سبعة رجال جاءوا إلى النبي · يطلبون منه الحمل، وقال محمد بن كعب: كانوا سبعة نفر، من بني عمرو بن عوف: سالم بن عُمَيْر - ومن بني واقف: هَرَمي بن عمرو - ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب، ويكنى أبا ليلى - ومن بني المُعَلى: [سلمان بن صخر - ومن بني حارثة: عبد الرحمن بن يزيد، أبو عبلة، وهو الذي تصدق بعرضه فقبله الله منه] ومن بني سَلِمة: عمرو بن عَنَمة وعبد الله بن عمرو المزني. جاءوا إلى النبي · وسألوه أن يحملهم على ظهر، ليخرجوا معه للقتال في سبيل الله. فقال النبي ·: { لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ }.
أولاً كانوا معذورين، وكان عذرهم كافيا لمنعهم من الخروج، لكنهم لم يكتفوا بذلك، ولم يقرروا عذرهم عذرا حتى عرضوا أنفسهم على رسول الله ·، وطلبوا منه أن يحملهم على دابة، فقال رسول الله ·: لا أجد ما أحملكم عليه. لكنهم ما اكتفوا به، ولم يُطَمّنوا قلوبَهم أنهم فعلوا ما كان بوسعهم للخروج في سبيل الله، لكن رسول الله · لم يجد ظهراً يحملهم عليه، فلا حرج علينا. لكنهم حزنوا على عذرهم الذي منعهم من الخروج، ولم يكن مجرد حزن، بل تفيض أعينهم بالدمع، وكادوا حرضا، أن ما وجدوا حملا، إذ لو وجدوا لخرجوا. ففي مثل هذه الظروف إن كان هناك من يتخلف عن الجهاد بحيل واهية كاذبة فإن هناك من كان معذورا لكنه عرض نفسه على رسول الله ·، وهو لا يجد ما يحمله عليه فحزن وكاد يحرض. فهذه بعض جوانب حياة صحابة رسول الله ·، وهم أسوة هذه الأمة وقدوتها. ثم وجد النبي · لبعضهم الحمل، فحمله عليه، والبعض الآخر كان عائدا إلى أهله باكيا تذرف الدموع من عينه كأبي ليلى عبد الرحمن بن كعب وعبد الله بن مغفل حتى لقيا يامين بن عمير النضري، فسألهما عن سبب بكائهما، فقالا: لقد أتينا رسول الله · نريد الخروج معه، وسألناه أن يحملنا على ظهر، لكنه لم يجد ظهراً، فرجعنا باكين، فدفع إليهما ناقته وتمورا كانت معه. أما علية بن زيد فقام في الليل يصلي ويبكي ويدعو، فقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد في سبيلك وحرّضتَ عليه، ولم تعطني من المال ما أتقوّى به على الجهاد، ولا أعطيتَ رسولك ما يحملني عليه، وإنني أعوّض ما فاتني من الجهاد بالتنازل عن كل حق لي على أحد من المسلمين، سواء كان ماليا أو بدنيا، بأن أضرّني أحدهم جسديا. فلما أصبحوا قال النبي ·: ليقم المتصدق منكم البارحة، فقام علية بن زيد، وذكر حاله، فقال · أبشر والذي نفسي بيده لقد كُتبت لك ثواب الزكاة المقبولة.
إضافة إلى المذكورين فإن بعضا من قوم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه طلبوا الظهر عن رسول الله · بواسطة أبي موسى، فأعطاهم النبي · ستة بعير. (أيضاً 6/5) (أنوار البيان)
من هم المعذورون؟
ذكر المفسرون أربعة أصناف للمعذورين في ضوء الآية الكريمة:
(1) الضعفاء (2) المرضى (3) الذين لا يجدون الوسائل (4) الذين يجدون زاداً ولا يجدون راحلة، ولا يمكن المشاركة فيه بدون راحلة. (التفسير الكبير)
كما تم اعتداد النساء ضمن نوع مستقل من المعذورين في التفسير الحقاني. (التفسير الحقاني)
ولفهم مسألة المعذورين بشكل أوسع لاحظوا العبارة التالية:
«والآن بصدد بيان أحوال المعذورين الحقيقيين بعد ذكر الكاذبين منهم:
وملخصه أن العذر قد يكون ملازما لذات الإنسان بحيث لا يفارقه، كالوهن في هرمه، فإنه لا يفارقه طول حياته عادةً، وقد يكون وقتيا عارضا، وهو على نوعين: (1) البدني، كالمرض وغيره. (2) المالي كالإفلاس وعدم تواجد وسائل السفر. وفي غزوة تبوك اضطر المسلمون إلى تحمّل مشقة السفر لبُعد المسافة، فكان عذر عدم تواجد وسائل السفر معقولا ومعتبراً. والمعنى أن من كان معذوراً في واقع الأمر، إن صدقوا في إيمانهم، وأطاعوا الله ورسوله، بأن ربطوا على قلوب المقاتلين، ولم يسعوا إلى إضعاف معنوياتهم، ولا زادوهم خبالا، وكانوا حريصين في تقديم ما يمكنهم ليبرهنوا على وفاءهم وتفانيهم وإخلاص نيتهم لله، فلا يضرهم التخلف عن الجهاد. (التفسير العثماني)
ما مسئوليات المعذورين؟
لا ذنب لمن تخلف عن الجهاد من أصحاب الأعذار الحقيقيين، إذا نصحوا لله ورسوله، فيما يلي لاحظوا تفاصيل هذا الشرط في بعض نصوص أهل العلم:
(1) - {إذا نصحوا لله ورسوله} في حال قعودهم بعدم الإرجاف والتثبيط والطاعة. (الجلالين)
(2) -  وقال الرازي:
{إذا نصحوا لله ورسوله} معناه أنهم إذا أقاموا في البلد احترزوا عن إلقاء الأراجيف وعن إثارة الفتن وسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين الذين سافروا إما بأن يقوموا بإصلاح مهمات بيوتهم وإما بأن يسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم، فإن جملة هذه الأمور جارية مجرى الإعانة على الجهاد. (التفسير الكبير)
وقال الشيخ اللاهوري رحمه الله:
من كان معذوراً حقاً، لا ذنب عليه، شريطة أن لا يثير الفتن أثناء قعوده في منزله، ونصح للمؤمنين بقدر المستطاع. (حاشية اللاهوري)
إعجاز القرآن:
المعذورين الذين قعدوا عن الجهاد، هاجم عليهم الشيطان، بالوساوس والفتن، ومن ضعف الإنسان أن الحرمان في جانب يولّد الحرمان في جانب آخر، فمن حُرم من الجهاد أوقعه الشيطان في مزيد من الحرمان، لذلك أشار القرآن إلى علاجه في البداية وطريقة محوه، أدرك أهميته وإعجازه وحكمته كل من اطلع على أحوال المعذورين القاعدين. (والله أعلم بالصواب)
ذكر بعض أحبة الجهاد المخلصين:
لقد ذكر القرآن أحبة الجهاد المخلصين في الآية 92 من سورة التوبة بأسلوب رائع، لأنهم كانوا معذورين، لكنهم كانوا يتمنون الخروج مع رسول الله · للجهاد، فلما لم يقدروا على الخروج بكوا واخضلت لحاهم بالدموع.
1- إن كان المنافقون يلجأون إلى حيل كاذبة فراراً من أمر الله بالجهاد والخروج مع رسول الله ·، فإن المخلصين في جانب آخر مؤمنون مخلصون يبكون رغم الأعذار غمّاً وحزنا.
2- من عادة الناس أنهم لا يألون جهدا لحماية أنفسهم من الجهد والمشقة والتعب، لكن أبناء الإسلام هؤلاء كانوا يبكون على أنهم ما استطاعوا أن يوقعوا أنفسهم في التعب والمشقة والحر.
كان بإمكانهم أن يقولوا: إن الجهاد في اللغة بمعنى بذل ما في الوسع من طاقة وجهد، ونحن يمكننا نيل أجر الجهاد وثوابه ببذل ما بوسعنا داخل المدينة. لكنهم لم يفعلوا ذلك، لأنهم كانوا صحابة رسول الله ·، وكانوا أدرى بتأويل القرآن وتفسيره ومظانه، وأعلم بالدين وشريعته، كان معهم ما يكفي لمنعهم من الخروج، لكن بكاءهم وجزعم وهلعهم تصل إلى السماء لتهز أركانها، إذ كانوا عارفين بالجهاد وفضله ومراتبه.
3- كانوا صادقين في دموعهم، حتى أحبهم الله وجعل عملهم ذلك قرآنا يُقرأ إلى يوم القيامة. ولم يغفل عنهم رسول الله · في سفره، فقد ذكرهم وقال: لهم ما لنا من الأجر والثواب.
4- جزاهم الله عن الأمة المسلمة خيراً، فإن دموعهم تكفي لغسل كل تحريف وزيغ يعترض طريق الجهاد في سبيل الله. (والله أعلم بالصواب)
أعطنا النعال نسعى مشاة:
قال بعض المفسرين: إن البعض من هؤلاء المؤمنين سألوا النبي · الأحذية، وقال: إن لم تجد الدابة لتحملنا عليها فأعطنا الأحذية، نعدو بها إلى جانب الإبل ونجاهد معك في سبيل الله.
قال الآلوسي رحمه الله:
«فكأنهم قالوا: احملنا على ما يتيسر أو المراد احملنا ولو على نعالنا وأخفافنا». (روح المعاني).
وفي التفسير المظهري :
«وقيل (إن الذين لم تكن لهم ظهر) سألوا النبي · أن يعطيهم الخفاف والأحذية الممزقة لكي يعدو مع النبي ·». (المظهري)
تلك التي تسيل لم تكن دموعا إنما هي العيون:
قال الله تعالى: {أعينهم تفيض من الدمع} وهي جملة بليغة بحيث جعلت العين بمثابة الدموع السائلة. (المظهري والماجدي)
الله أكبر الله أكبر، ما أعظم شأن الجهاد، وقد أدركه صحابة رسول الله ·، تدل عليه عيونهم التي تذرف بالدموع على فواته، ولشدة بكائهم كادت عيونهم تزهق، وهذا ما يسمى بالبكّائين.
قال القرطبي: «فسمّوا البكّائين». (القرطبي)
سبعة إخوة لهم الصحبة والجهاد:
قال القرطبي رحمه الله: قيل هذه الآية نزلت في سبعة إخوة أبناء مقرّن، وأسماءهم:
(1) نعمان (2) معقل (3) عقيل (4) سويد (5) سنان (6) عبد الله (7) عبد الرحمن. رضي الله عنهم أجمعين.
كلهم صحبوا النبي ·، وهذا الشرف لم يحصل لأحد غيرهم، وقد هاجروا، وشهدوا غزوة الخندق مع رسول الله ·.
«وقيل نزلت في بني مقرن، وعلى هذا جمهور المفسرين، وكانوا سبعة إخوة كلهم صحبوا النبي ·، وليس في الصحابة سبعة إخوة غيرهم».
هاجروا وصحبوا الرسول ·، وقد قيل إنهم شهدوا الخندق كلهم. (القرطبي)
ملحوظة:
لقد تعدد أقوال المفسرين حول أولئك الذين نزلت فيهم هذه الآية، راجع القرطبي وابن كثير والمظهري وروح المعاني.
باكون على أنهم لم يقدروا على التضحية..
«بكوا من فرط الحزن والألم، لكن بكاءهم كان على ماذا؟ على أنهم ما وجدوا حظا في الرفاهية ورغد العيش؟ لا، بل على أنهم ما وجدوا فرصة لتقديم التضحيات وخوض المحن والشدائد». (ترجمان القرآن)
دموعهم لا زالت حية..
«وكانوا من فرط بكاءهم لُقّبوا بالبكّائين. (ابن جرير) فيا سبحان الله، من منزلة تلك الدموع التي سالت من حرارة الإيمان أنها سجّلت في كتاب الله خالدة مادامت السموات والأرضين، واليوم مضى على هذا الحادث أكثر من ألف وأربعمائة قرن، ومن الصعب أن يقرأها مؤمن فلا تتدفق دموعه من ذكراهم». (ترجمان القرآن)
«لاحظوا البلاغ القرآني المعجز، كان قد سبق ذكر المعذورين، ثم أعاد ذكر هؤلاء بطريق مختلف، بحيث يعكس حبهم الإيماني الخالص، ليظهر الإيمان في مقابلة النفاق. أي منهم من يتخلف عن الجهاد بحيل واهية رغم إمكانياته الهائلة، ومنهم من عذّره الله لعذره، لكن قلبه لم يهدأ أن انهمر بالدموع». (ترجمان القرآن)
فهل لكم من مثل تضربونه..
فسبحان الله، لقد أحدثت صحبة الرسول · في قلوب الصحابة نشوة من حب الله بحيث لا نجد لها مثالا في الأمم الأخرى، لاحظوا القادرين منهم مستعدون للتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الله، ويندفعون إلى الأمام في أوقات الشدة والحرج بكل حماس وشجاعة، والمعذورون منهم يكادون يهلكون لأن لا يجد رسول الله · ما يحملهم عليه، يريدون أن يضحوا بأرواحهم وأنفسهم في سبيل الله. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن الأودي، حدثنا وَكيع، عن الربيع، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد خلفتم بالمدينة أقواما، ما أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم واديا، ولا نلتم من عدو نيلا إلا وقد شَركوكم في الأجر»، ثم قرأ: { وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } الآية (التفسير العثماني)
فائدة:
لقد ذكر الإمام القرطبي بكل فخر واعتزاز أولئك الصحابة الذين خرجوا للجهاد رغم عذرهم، من عمي كعبد الله بن أم مكتوم، وعرج كعمرو بن الجموح رضي الله عنهما. وللتوسع يرجى مراجعة تفسير القرطبي.