{سورة التوبة مدنية، الآيات 94، 95، 96}


{بسم الله الرحمن الرحيم}
{ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) }.
ملخص معاني الآيات:
(1) إذا عاد النبي · وأصحابه إلى المدينة من تبوك، جاء إليه المخلّفون من المنافقين ليعتذروا إليه على تخلفهم عنه في الغزو. (فكان كما أخبر، فقد جاءوا واعتذروا إلى النبي ·)
(2) فقيل له: قل لهم لا يمكننا تصديقكم فيما تقولون، لأن الله تعالى أطلعنا على أحوالكم.
(3) أما فيما تأتي من الأيام فالله ورسوله يرى أعمالكم، (إن تبتم فذلك، وإلا ظل الناس يطلعون أحوالكم وتواجهون الندم والخجل).
(4) ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئنكم بما كنتم تعملون.
(5) يُقسِم المنافقون أمام المؤمنين، يزكون أنفسهم، ويعلنون بالولاء والوفاء لهم، كي يتسامحوا عنهم، ولا يُعرضوا عنهم. لكن هنا أمر الله المؤمنين بالإعراض عن المنافقين، أي لا يزجروهم ولا يعاقبوهم، لأنهم أنجاس متعفنون، ولا أمل في إصلاح أحوالهم، فقد حقّت عليهم نار جهنم بما كسبت أيديهم. أو معنى إعراض المؤمنين عنهم قطع العلاقة معهم، لأنهم أنجاس ناريون، ولا يصلحون لإقامة المودات والارتباطات.
(6) يقسم المنافقون ليرضى المؤمنون عنهم، لكن الواجب على المؤمنين أن لا يرضوا عنهم، فإن رضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.
سبب نزول الآية:
لاحظوا فيما يلي أقوال أهل العلم حول أسباب نزول هذه الآيات وأعداد المنافقين:
(1) «قال صاحب معالم التنزيل: نزلت هذه الآية في جُد بن قيس ومعتب بن قشير وأصحابهما، وكانوا ثمانين نفرا، تخلفوا عن غزوة تبوك لنفاقهم، فلما رجع النبي · إلى المدينة أمر المسلمين بمقاطعتهم، ومنعهم من مخالطتهم ومحادثتهم. (وذلك تطبيقا لقوله تعالى: {فأعرضوا عنهم}». (أنوار البيان)
(2) «هنا يذكر الله تعالى أولئك المنافقين الذين كانوا أثرياء وأقوياء، لم تكن لديهم أعذار، فلا فقر ولا مسكنة ولا مرض معهم.
«وهم أغنياء أصحاء لا عذر بهم». (المنار)
وعددهم 82 فيما ذكره ابن سعد في طبقاته.
«وزمان نزول الآية هو سفر تبوك، والذي ورد في الآية كان من باب الإخبار عما يكون عند عودة المسلمين إلى المدينة، أن المنافقين سوف يتفننون في تقديم الأعذار، من مرض وفقر ومسكنة، وغيرها». (التفسير الماجدي)
(3) قال البغوي: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في جُد بن قيس، ومعتب بن قشير وأصحابهما، وعددهم 80 رجلا، وكلهم كانوا منافقين، وذلك أن النبي · لمّا قدم المدينة أمر المسلمين بمقاطعة هؤلاء المنافقين وعدم الاختلاط معهم. وقال مقاتل: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي بن سلول الذي قال للنبي ·: ارض عني، فوالذي لا إله إلا هو لن أتخلف عنك في غزوة تغزوها بعد اليوم. (المظهري)
قال القرطبي رحمه الله:
حلف عبد الله بن أبي أن لا يتخلف عن رسول الله · بعد ذلك وطلب أن يرضى عنه. (القرطبي)
{فأعرضوا عنهم إنهم رجس}:
قال الإمام الرازي:
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد ترك الكلام والسلام. قال مقاتل: قال النبي · حين قدم المدينة: لا تجالسوهم ولا تكلموهم. قال أهل المعاني: هؤلاء طلبوا إعراض الصفح، فاعطوا اعراض المقت. (التفسير الكبير)
ولاحظوا من التعبيرات ما تشابه ما قاله الرازي:
(1) سوف يقسمون لكم، كي تُعرضوا عنهم وتُسامحوا عنهم، لا مانع من إعراضكم عنهم، لكن ذلك لا يكون على سبيل الرضا والموافقة، بل من قبيل السخط والغضب عليهم، لأنهم رجس، لقذر أعمالهم ومعتقداتهم. (أنوار البيان)
(2) هم أناس قذرون، لخبث باطنهم، فلا يجوز مؤانستهم وملاطفتهم ومصاحبتهم، وبما أنهم لا يتأهلون للتزكية والطهارة، لذلك لا تزجروهم ولا تعاقبوهم، إذ الغرض من الزجر والعتاب إلا عودتهم للتوبة، والتخلّي عن أعمالهم الماضية والوعد بعدم العود إليها، ويزكّوا أنفسهم، لكنهم لا يتأهلون للتوبة والتزكية، فلا فائدة في زجرهم وعتابهم. (المظهري)
(3) أي حققوا رغباتهم ولا مانع منها، لكنكم لا تلتفتوا إليهم، إذ الغرض من التعرّض الإصلاح، ولا يتوقع الإصلاح منهم لخبث باطنهم.
لكن لا إعراض رضا كما طلبوا بل إعراض اجتناب. (روح)
فهذا إعجاز بلاغي قرآني، أراد من لفظ الإعراض عكس ما يريد المنكرون من معنى. (الماجدي)
تعامل المنافقين بعد فتح المسلمين:
كان المنافقون في الحالات العامة إذا قيل لهم اخرجوا للجهاد في سبيل الله، وكان العدو قويا شرسا، والطريق طويلا شاقا، أعرضوا عنه، وانفصلوا عن بقية المسلمين المجاهدين، وانتقدوهم بلهجة حادة، لكن المجاهدين إذا رجعوا ظافرين ظاهرين على الأعداء، تغيَّر المنافقون لهم، وتغير تعاملهم مع المسلمين، جاءوا لاستقبال الظافرين، ورحّبوا بهم، وأصرّوا على حبهم وولائهم للمسلمين بالحلف بالله، وسعوا إلى إقامة روابط قريبة معهم، فهذا حالهم الذي أحاط القرآن به في الآيات الثلاثة المذكورة، وحذّر المجاهدين من الوقوع في ورطتهم، ولاشك أن ما أكد عليه القرآن من صورة لا يخلو عصر من العصور إلا ونرى فيه وجها منه. (والله أعلم بالصواب)