{وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ
رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ
مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)}.
ملخص معاني الآية الكريمة:
ما من مسلم خرج في سبيل الله مجاهدا أو
مهاجرا، ثم وافته المَنيّةُ في الطريق، إما بالقتل أو مات حتف أنفه، ليرزقنّه الله
رزقا حسنا ومقاما كريما يعيش فيه، ويرضيه به، وهو من الفائزين في الوجهين، سواء
مات موتا طبيعيا أو قُتل في سبيل الله.
وجه ارتباط الآية بما قبلها:
لاحظوا فيما يلي بعض نصوص أهل العلم في
وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها:
(1) في الآيات السابقة أشار إلى فضائل
المؤمنين الصالحين، وهنا يشير إلى فضائل المهاجرين والمجاهدين بوجه خاص. (معارف
القرآن للكاندهلوي)
(2) ذكر الإذن بالجهاد في الآيات
السابقة، ووعد فيها بالنصر، لكن الذين يُقتلون في سبيل الله، أو تُوافيهم المنية
في طريق الهجرة، ليس لهم شيء من الفوز والظفر باعتبار الظاهر، فهنا أشار إلى أن
جهودهم لا تُهدر، فقد أعدّ الله لهم رزقا حسنا، ولهم مُدخَلٌ يدخلون فيه ويرضونه،
وهو الجنّة.
قال التهانوي رحمه الله:
في الآية السابقة وهي {اُذن للذين
يُقاتلون} كان إذناً بالجهاد ووعدا بالنصر، وفي قوله {الذين اُخرجوا} إشارة إلى
هجرة المؤمنين، وهذا الذي تناولته الآيات إلى هنا، وبما أن الجهاد والهجرة لا
تخلوان عن حالات الوفاة الطبيعية، لكنها لا تعارض وعد النصر، إذ النصر صفة القوم
دون الفرد. لكن ثَمَّةَ وهم بعدم تمتّع الميت أو القتيل بمشاهدة الوعد، لذلك
بشّرهم الله تعالى ببشارة هي أعظم من بشارة النصر. (بيان القرآن)
ذكر صاحب التفسير الماجدي الربط
المذكور بتعبير أسهل، فقال: «الذين قُتلوا أو وافتهم المنية بعد مغادرة ديارهم
وأوطانهم بنية الهجرة، ولم يقدروا على الاستمتاع بثمار الانتصار والفتح على الكفار
والمشركين، عليهم أن يطمئنّوا فإن الله أعدّ لهم رزقا حسنا ومقاما كريما».
(التفسير الماجدي)
بعض قصص سبب النزول:
رُوي أن طوائف من أصحاب النبي · قالوا:
يا نبي الله هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك
كما جاهدوا، فمالنا إن مُتنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين. (المدارك)
(2) وقال بعض المفسرين:
وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو
سلمة بن عبد الأسد، قال بعض الناس من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه،
فنزلت مسوّية بينهم أن الله يرزقهم رزقا حسنا. (البحر المحيط)
(3) نزلت في طوائف خرجوا من مكة إلى
المدينة للهجرة، فتبعهم المشركون وقاتلوهم. (البحر المحيط)
ملخص رائع للحوادث المذكورة:
وخلاصة ما ذكرنا من الوقائع والحوادث
أن مجرد الخروج في سبيل الله يكفي لتحقق الانتصارات والفوز بالجنة، لذلك سُمّي
بسبيل الله، للإشارة إلى أنه هو الغاية والهدف، فمن خرج فيه بنية خالصة لله تعالى،
فقد فاز، بِغَضّ النظر عن النهاية الظاهرة، سواء كانت بالانتصار أو القتل أو الموت
بشكل طبيعي أو الوفاة إثر حادث.
أراد
بالهجرة الجهاد :
قال الآلوسي رحمه الله:
{والذين هاجروا في سبيل الله} أي في
الجهاد حسبما يلوح به قوله تعالى: {ثم قتلوا أو ماتوا}. (روح المعاني)
وهذا الذي ذكره الرازي، لكنه أصرّ على
إطلاق مفهوم الآية ليشمل الهجرة المعروفة وهي مغادرة الوطن لله والهجرة الخاصة وهي
الجهاد، لاحظوا نص تقريره:
«واختلفوا فيمن اُريد بذلك، فقال بعضهم
من هاجر إلى المدينة طالبا لنصرة الرسول · وتقربا إلى الله تعالى، وقال آخرون: بل
المراد من جاهد فخرج مع الرسول · أو في سراياه لنصرة الدين ولذلك ذكر القتل بعده
ومنهم من حمله على الأمرين.. وظاهر الكلام للعموم. (التفسير الكبير)
ما الأفضل .. القتل أو الموت؟
الموضوع الحقيقي الذي تناولته الآية
الكريمة هو بيان نجاح أولئك الذين خرجوا في سبيل الله، واستحقاقهم لنِعَمِ الله
المتنوعة. لكن المفسرين أدرجوا هنا مبحثا آخر، فقالوا: من الأفضل؟ من قُتل في سبيل
الله أم من وافته المنية بعدما خرج للجهاد في سبيل الله؟ وقد أورد القرطبي وصاحب
البحر المحيط وابن كثير وصاحب روح المعاني أروع المباحث في الموضوع، ذكروا
القولين، فالبعض سوّوا بينهما، ولم يفضّلوا أحدهما على الآخر من ناحية الأجر
والمنزلة، والبعض فضّل المقتول على الميت، وقد رجّح أغلب المفسرين القول الثاني.
قال القرطبي رحمه الله:
«وظاهر الشريعة يدل على أن المقتول
أفضل».
وقال الإمام أبو حيّان:
«ظاهر الشريعة أن المقتول أفضل».
(البحر المحيط)
نقل الآلوسي لفظ ما كتبه الإمام أبو
حيّان في روح المعاني.
وقال الإمام ابن النحاس أبو زكريا أحمد
بن إبراهيم الدمشقي الشهيد:
يرى بعض أهل العلم أنه لا فرق بين من
قُتل في سبيل الله ومن وافته المنية فيه.
وقد استدلوا بقصة أم حرام رضي الله
عنها، التي بشّرها النبي · بقوله: «أنت من الأولين»، فركبت البحر في زمان معاوية
بن أبي سفيان رضي الله عنهما، فصُرعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت. (صحيح
البخاري)
وقيل: المقتول في سبيل الله أفضل من
المتوفي، يبدو أن هذا هو أصح الأقوال، وقد استدلوا بما تأتي من الأدلة:
(1) قيل للنبي ·: ما أفضل الجهاد؟
فقال: أفضل الجهاد ما صُرع فيه فرسك، ولقيتَ مصرعك. (موارد الظمآن)
(2) قالوا: الأفضل من تمنّى شيئا ثم
ناله، ممّن تمنّى شيئا فلم ينله.
(3) نهى القرآن عن إطلاق لفظ الميت على
الشهيد.
(4) يتمنّى الشهيد أن يعود إلى الدنيا
ليُقتل في سبيل الله، ثم يُقتل ثم يُقتل. فيه دليل على فضله.
(5) للشهيد أحكام خاصة دون الميت، كعدم
تغسيله وتكفينه، وعدم الصلاة عليه عند البعض، إضافة إلى فضائل أخرى له. (فضائل
الجهاد، ص 414)
قصة تزيد الإيمان قوة:
تحت هذه الآية الكريمة ذكر كثير من
المفسرين قصة فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه. قال الراوي:
كنا برودس، ومعنا فَضَالة بن عبيد الأنصاري
- صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم- فمر بجنازتين، إحداهما قتيل والأخرى متوفى، فمال
الناس على القتيل، فقال فضالة: ما لي أرى الناس مالوا مع هذا، وتركوا هذا؟! فقالوا:
هذا قتيل في سبيل الله تعالى. فقال: والله ما أبالي من أي حُفرتيهما بُعثت، اسمعوا
كتاب الله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
[ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
] (5)}.
وفي رواية أن عبد الرحمن بن جَحْدَم الخولاني حدثه: أنه حضر
فضالة بن عبيد في البحر مع جنازتين، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي، فجلس فضالة بن
عبيد عند قبر المتوفى، فقيل له: تركت الشهيد فلم تجلس عنده؟ فقال: ما أبالي من أي حفرتيهما
بعثتُ، إن الله يقول: { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا
أَوْ مَاتُوا [ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ . لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا ] يَرْضَوْنَهُ } فما تبتغي أيها
العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت رزقًا حسنًا، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت.
(تفسير ابن كثير)
فائدة:
وللتوسّع في الباب ارجعوا إلى «فضائل
الجهاد» شرح وتلخيص «مشارع الأشواق» للعلامة ابن النحاس الشهيد رحمه الله تعالى.
{وإن الله
لعليم حليم}...
يعلم بِمَ يرضى المجاهدون والمهاجرون،
ويعلم من غادر وطنه لله، ومن غادر وطنه للدنيا ومتاعها، يعفو عن تقصيراتهم ولا
يؤاخذهم عليها. (العثماني)
(2) {إن الله لعليم} بأحوال من قضى
نحبه مجاهدا وآمال من مات وهو ينتظر معاهدا. (المدارك)
(3) يعلم من تحمّل الشدائد في سبيل
الله، إن الله لعليم حليم، لا يستعجل في معاقبة الأعداء. (معارف القرآن للكاندهلوي
رحمه الله)
(4) إن الله لعليم، لا تخفى عليه مصالح
الوقائع والحوادث وحِكمُها، لا يشعر المؤمنون بالإحباط على مواجهة الفشل والإخفاق
في الدنيا، (فالله عليم حليم) لا يعاقب المجرمين العصاة فوراً، وقد ينخدع الباطل
بحلمه. (التفسير الماجدي)
العيش المختار..
في الجهاد والهجرة يضطر المؤمن إلى هجر
الدار والأهل، يواجه ضيقا في المأكل والمشرب، لذلك أشار في الآية إلى الرزق
والسكن، بحيث يرضى المجاهد والمهاجر. قال العثماني في تفسيره:
«أي الذين تركوا ديارهم وأوطانهم
وخرجوا في سبيل الله، ثم ماتوا أو قتلوا، لهم رزق حسن عند الله، وطعام وشراب وسكن
كما يشاءون». (التفسير العثماني)