عمرة القضاء

عمرة القضاء

ذي القعدة الحرام سنة سبع من الهجرة

سبب تسميتها:

ويقال لها «عمرة القضيّة» أيضاً، والقضاء: الفصل. وكان النبي · قد قاضى قريشا أي صالح، لذلك سمّيت بعمرة القضاء، كما يقال لها عمرة الصلح وعمرة القصاص. (والسبب واضح)
وقال السهيلي رحمه الله: والأولى تسميتها بعمرة القصاص، لأن الله تعالى قال:
{الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص} (الآية 194 سورة البقرة).

لها أربعة أسماء:

قال الحافظ ابن حجر: لها أربعة أسماء، وهي عمرة القضاء، وعمرة القضية، وعمرة الصلح وعمرة القصاص. (ومعنى عمرة القصاص : عمرة المقاصة والمعادلة، أي لمّا توجه النبي · إلى مكة ليعتمر، منعه المشركون منها) ولأنها كانت في ذي القعدة سنة سبع من الهجرة، نفس الشهر الذي منعه المشركون من أداء العمرة قبل عام، وهو العام السادس من الهجرة. (فكانت قصاصاً وتعادلاً لها)

هل عمرة القضاء غزوة من غزوات الرسول   ·:

لم يتم عدّها ضمن الغزوات، أما الإمام البخاري رحمه الله فقد عدّها من الغزوات، وذلك لأن النبي · وأصحابه كانوا قد أخذوا اُهبة القتال، إذ لم يكن يأمن المشركين رُغم الهُدنة بينهم. ثانيا: لا يشترط للغزوة القتال، (إذ يكفي للغزوة أن يكون الخروج بنية القتال أو أن يأخذوا عُدّة الحرب لمواجهة خطر الحرب، لذلك قيل لهذه الرحلة: غزوة الأمن).

التوجّه نحو مكة:

وكانت من بنود الصلح يوم الحديبية أن يعود المسلمون هذا العام، ويعتمروا من القادم، ولا يقيموا بمكة أكثر من ثلاثة أيام، فلمّا أهل هلال ذي القعدة أمر أصحابه بالخروج لعمرة القضاء، التي منع عنها المشركون يوم الحديبية.

عدد أصحابه:

بلغ عدد الذين خرجوا مع النبي · في عمرة القضاء ألفين، وكان قد أمرهم النبي · عند الخروج أن لا يتخلف عنها أحد شهد الحديبية، فخرج الجميع غير الذين استشهدوا يوم خيبر أو وافتهم المنية خلال تلك الفترة، كما خرج معه آخرون لم يشهدوا الحديبية.
«تواترت الأخبار أنه · لما أهلّ ذو القعدة أمر أصحابه أن يعتمروا قضاء عمرتهم، وأن لا يتخلف أحد منهم شهد الحديبية، فخرجوا إلا من استُشهد، وخرج معه آخرون معتمرين، فكانت عدتهم ألفين سوى النساء والصبيان. قال وتسمى أيضا عمرة الصلح». (فتح الباري 383/7)
ومن هنا عرفنا وجوب قضاء العمرة أو الحج من القادم إن منعه مانع، وبه قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله. وللتفصيل يُرجى مراجعة كتب الفقه.

الاستخلاف بالمدينة المنورة:

واستخلف أباذر الغفاري رضي الله عنه على المدينة لمّا خرج النبي · منها، وقيل: استخلف غيره من أصحابه. وساق ستون هديا، وهي البُدن في مصطلح الشرع، ثم قلّدها وأشعرها، بقطعة من جلد أو نعل وما إلى ذلك لتُعلم أنها هدي فلا يتعرض لها أحد، ودفعها إلى ناجية بن جندب رضي الله عنه الذي كان يسوقها.

السلاح من باب الحيطة والحذر:

وأخذ النبي · في هذا السفر عُدّة الحرب من السلاح والدروع والسيوف والرماح، وخرج معه مائة فارس، يرأسهم محمد بن مسلمة، أما السلاح فقد دفعها إلى بشير بن سعد.
وبما أن فيه مخالفة لبنود الصلح، لذلك قالوا:
يا رسول الله ... حملنا السلاح معنا، وقد عاهدنا المشركين أن لا نحمل معنا من السلاح إلا السيوف في أغمادها.
فقال النبي ·: لن ندخل الحرم مع السلاح بين أيديهم، لكنها تكون على مقربة منا، وفي متناول أيدينا، تحسباً للمفاجآت.

الركبان المسلمون والجماعة القريشية:

وتقدم محمد بن مسلمة مع كتيبة الفرسان، حتى إذا بلغ مرّ الظهران، لقيه بعض مشركي مكة، فسألوه عن الأحوال، فقال محمد بن مسلمة: إن النبي · سائر وراءنا، وسوف يصل إلى هنا صُبحة غد.

هلع المشركين وإرسال وفد إلى النبي   ·:

ولمّا رأى المشركون السلاح مع محمد بن مسلمة بكميات كبيرة هلعوا وأسرعوا إلى مكة، وأبلغوا المشركين أنهم لقوا خيلا من المسلمين معهم السلاح، فما أن سمعوا حتى فقدوا وعيهم، وقالوا : لم تصدر منّا من التصرفات ما تستدعي ذلك، ولم نخالف بنود الصلح، إننا موفون بالعهد، إلى انقضاء أجله، وما الذي حمل محمداً على محاربتنا؟
ثم بعثوا مكرز بن حفص في وفد من المشركين إلى رسول الله ·، فجاء وقال للنبي ·:
«ما سمعنا عنك تغدر منذ أن وُلدتَّ إلى يومنا هذا، وقد خرجت مع سلاحك وكراعك تقاتل قومك وتدخل الحرم، وأنك عاهدت أنك لا تخرج إلا والسيوف في أغمادها».
فقال النبي ·: لن أدخل معها مكة.
فقال مكرز: هذا ما نعرفه عنك من البر والوفاء والمحافظة على العهد.
ثم عاد مكرز سريعا إلى مكة، وأبلغهم أن محمدا · لا يدخل مكة مع السلاح، وأنه يحافظ على ما عاهدهم.

دخول النبي   · مكة:

ولما حان وقت دخول النبي · مكة، خرج منها زعماءها وسادتها وتوجهوا إلى رؤوس الجبال، إذ كانوا يأنفون أن يدخل النبي · مكة مع أصحابه يطوفون حول الكعبة.

دخول مكة:

أحرم النبي · وأصحابه بذي الحليفة، ثم توجهوا إلى مكة يلبون ويهللون ويكبرون، وكان من ضمن شروط الحديبية أن لا يحمل السلاح معه، لذلك تركها عند بطن ياجج، على بُعد ثمانية أميال من مكة، وأمر مائتي رجل بالمحافظة عليها، ثم تقدم مع أصحابه يلبّون. (الطبقات لابن سعد 87/2)
وكان عبد الله بن رواحة الذي كان قد أخذ زمام ناقته القصوى يرتجز ويقول:
   خلّوا بني الكفار عن سبيله    قد أنزل الرحمن في تنزيله
   بأن خير القتل في سبيــله    نحــن قتلناكم على تأويله
          كم قتلناكم على تنزيله
              (رواه عبد الرزاق عن أنس رضي الله عنه)
وعند البيهقي بزيادة:
   اليوم نضربكم على تنزيله ضربا يزيل الهام عن مقيله
   ويزهل الخليل عن خليله يا رب إنى مـــؤمن بقيله
 وفي رواية ابن إسحاق:
   يا رب إني مؤمن بقيله    إني رأيت الحق في قبوله
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ يَا ابْنَ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي حَرَمِ اللَّهِ تَقُولُ الشِّعْرَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ فَلَهِيَ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ.
(رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: حسن غريب)
وفي رواية ابن سعد أن النبي · قال: أسمعُ يا عمر، وقال لعبد الله بن رواحة قل:
لا إله إلا الله وحده، نصر عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
وظل عبد الله بن رواحة وصحابة رسول الله · يرددونها حتى دخلوا مكة في عزّ وشهامة.

الطواف على الدابة والدخول في الكعبة:

ثم طاف النبي · حول الكعبة على ناقته، ثم استلم الحجر الأسود في عمقه، قيل: دخل النبي · الكعبة فبقي فيها حتى رفع بلال صوته بأذان الظهر، وقد أذّن بعدما صعد سطح الكعبة.

أقاويل قريش على المهاجرين:

صعدت جماعة من المشركين على جبل قينقاع، ثم أشرفت على المسلمين، فرأت النبي · والمسلمين يطوفون، (وقد رأوهم بعد مدة) فصاروا يتحدثون ويقولون:
أضناهم حمّى يثرب. وفي رواية : هؤلاء الذين قدموا عليكم أكلهم حمى يثرب.

الرمل لترويع المشركين:

أخبر الله تعالى نبيه عن أقاويل المشركين وتعليقاتهم، فقال لأصحابه:
«رَحِمَ اللّهُ امْرَأً أَرَاهُمْ الْيَوْمَ مِنْ نَفْسِهِ قُوّةً».
ثم أمر أصحابه بالرمل في أشواط الطواف الثلاثة، بأن يتخشب أثناء السير ويبرز الصدر، ليعلم المشركون أنهم أقوياء قادرون على إنزال الهزيمة بهم. (فلا يفرحوا بضعفهم الظاهري).
فلما رمل المسلمون وهرلوا، رآهم المشركون فقالوا:
«أهؤلاء الذين تقولون أضناهم حمّى يثرب، ألا ترون إلى قوتهم وجلدتهم، يثبون مثل الظباء».
ثم إن النبي · لم يأمر المسلمين بالرمل والهرولة في الأشواط السبعة شفقة عليهم، إنما أمرهم بذلك في الأشواط الثلاثة الأولى. (لأن ذلك قد يؤدى إلى إنهاك الرجل وإصابته بالإرهاق).
واضطبع النبي ·  وكشف كتفه اليمنى، ففعلوا مثله، ثم رمل وهرول. فكان أول رمل واضطباع في الإسلام.

تأدية مناسك العمرة:

ثم سعى النبي · بين الصفا والمروة، ثم أوقف الهدي بالقرب من المروة، ثم قال:
«نَحَرْتُ هَا هُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ».
ثم ذبح الهدي وحلق رأسه.
وفي كتاب الأمتاع أن معتمر بن عبد الله العدوي حلق رأسه ·.
وفعل مثله عامة المسلمين، فمن لم يسق بدنة، أضحى بالبقرة أو البعير، كل سبعة في بقرة أو بعير، ثم إن رجلا أتى ببقرة، فاشتراها بعض المسلمين.
ومن تحلل بعمرة وحلق رأسه، أمره النبي · ليقوم على السلاح، فيأتي مكانهم أولئك الذين كانوا قائمين عليها، وهكذا اعتمر الجميع.

قريش تطلب مغادرة مكة:

أقام النبي · ثلاثة أيام بمكة مع أصحابه، وفق شروط الصلح، فجاء إليه حويطب بن عبد العزى يرافقه سهيل بن عمرو. وقد أسلما فيما بعد، وطلبا منه · أن يغادر مكة.
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ثلاثاً فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل في نفر من قريش في اليوم الثالث وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة فقالوا له: إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم وصنعنا لكم طعاماً فحضرتموه قالوا: لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هنالك ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة في ذي الحجة.

العودة إلى المدينة:

ثم نادى منادي النبي · بالرحيل، فعاد إلى المدينة، ووصل المدينة في ذي الحجة، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}.