{وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}.
ملخص معاني الآية:
(1) لله ما في السموات والأرض، وستعود
إليه بعدما يصير جميع البشرية إلى الفناء والزوال، فهلاّ ادّخرتموها لآخرتكم
بصرفها إلى الله؟
(2) من أنفق ماله في سبيل الله بطيبِ
نفسٍ منه، فكأنّه امتلكه، أما الله سبحانه وتعالى فلا حاجة له فيه، ولله ميراث
السموات والأرض.
(3) لا يستوي من المؤمنين من أنفق قبل
فتح مكة وقاتل، ومن أنفق بعد الفتح وقاتل، فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح أعظم
درجة، أما الوعد بالفوز والنجاح فللجميع، مع فرق المراتب.
تفسير سهل:
«أي يصير المالك إلى الزوال، ويبقى
الملك لله، الذي كان له من أول اليوم، فَلِمَ تتضايقون من إنفاقه فيما يأمركم به؟ إن
لم تنفقوه بطيب خاطركم عاد إلى الله رغم أنفكم، أما العبودية فتقتضي الإنفاق برضا
النفس، بحيث لا تطارده خشية الإملاق، إذ لله ميراث السماوات والأرض، فهل يعاني
المُنفق في سبيله من الفقر والجوع؟ ولا تخش من ذي العرش إقلالا».
{من قبل الفتح} أي فتح مكة، عند أكثر
المفسرين، وقيل: صلح الحديبية.
وهذا الذي تؤيده بعض الروايات،
والمعنى: إن الإنفاق في سبيل الله والقتال فيه لا يخلوان من خير في الأوقات كلها، وسوف
يجازيه الله خيرا في الدنيا والآخرة، لكن الدرجة العالية لأولئك الذين سبقوا
بالإنفاق والقتال قبل فتح مكة أو صلح الحديبية، أما الذين جاءوا بعدهم فلا يبلغون
منزلتهم، وذلك لأن الذين اتبعوا الحق قبل الفتح كانوا قِلّة قليلة، إذ الكفر
والكفار كانوا مهيمنين على العالم، وفي مثل هذه الظروف التي أحدقت بالإسلام كان
بحاجة إلى رجال يضحّون بالمال والنفس له، يبدو أن المؤمنين ما كانوا يتوقعون حصول
الأموال والأسباب والمغانم، فاعتناق الإسلام في مثل هذه الظروف والتضحية بالنفس
والمال في سبيله إن دل على شيء فإنه يدل على شجاعتهم وصبرهم وثباتهم وقوة عزيمتهم
وإرادتهم، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، ورزقنا الله اتباعهم وحبهم آمين.
{والله بما تعملون خبير} لا يخفى عليه
شيء من أعمالكم ومرتبتها وإخلاص نياتكم، فلا يعامل أحداً إلا حسب عمله. (العثماني)
الإنفاق في الجهاد دليل على كمال الإيمان:
وفي بيان القرآن:
ذكر الإنفاق في سبيل الله عقب الإيمان
بالله، والذي من أحد علامات الإيمان، ووسيلة لنشر الإسلام. أراد بالإنفاق في سبيل
الله في الآية الكريمة: الإنفاق في الجهاد، والدعوة إلى الإسلام من أسمى أهدافه.
(دل عليه استصحاب { أنْفَقَ} لِـ {قَاتَلَ}).
تأكيد بليغ على الإنفاق:
قال الإمام النسفي رحمه الله:
أي يرث الله الأرض والسماوات وما فيهن،
إذ لا يبقى أحد غيره. فالمعنى أنكم لا تقدرون على كسب شيء من وراء منع أيديكم من
الإنفاق في سبيل الله والتخلف عن الخروج مع الرسول · للجهاد، إذ الموت يطاردكم
فيهلككم، فترحلون من الدنيا وليس معكم شيء مما كسبتموه. (أي إن كان غرضكم من
التخلف عن الجهاد هو المحافظة على أنفسكم وأرواحكم وأموالكم فاعلموا أنكم لا
تقدرون عليها، سواء خرجتم للجهاد أو تخلفتم عنه.. أفليس من الحكمة والدهاء أن
تقدّموا أنفسكم وأموالكم للتضحية بطيب خاطركم كي تفوزوا بخير الدنيا والآخرة.
«وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل
الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم». (المدارك)
وأضاف قائلا: «وهو مِن أبلغ الحث على
الإنفاق في سبيل الله». (المدارك)
ما الذي أراد بالفتح؟
قال القرطبي رحمه الله: «أكثر المفسرين
على أن المراد بالفتح فتح مكة». (القرطبي)
وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية.
(القرطبي)
قال قتادة: كأنّ قتالان أحدهما أفضل من
الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كأن القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من
القتال والنفقة بعد ذلك. (القرطبي)
ظروف صعبة وأجور كثيرة:
أشارت الآية الكريمة إلى فضل أولئك
الصحابة الذين أنفقوا قبل فتح مكة وجاهدوا، ودلت على فلاح ونجاح جميع أصحاب رسول
الله ·. ثم قوله تعالى: {وكُلاًّ وعد الله الحسنى} يُبشّر بالفلاح والنجاح لمن
أنفق وجاهد بعدهم إلى يوم القيامة.
كما أشارت إلى زيادة الأجر والمثوبة
للمجاهدين والمُنفقين في الظروف الصعبة، فقد ذكر المفسرون أن الجهاد والإنفاق كانا
شاقَّيْن على النفوس قبل فتح مكة، لقلة عدد المسلمين ولضعف إمكانياتهم المادية،
والمواجهة الشرسة مع المشركين ومقاومتهم العنيفة للمسلمين، وبعد فتح مكة قَوِيَ
الإسلام وزادت شوكته وهيبته، وأصبح الجهاد أسهل مقارنة بما كان قبله. وللتوسع ارجع
إلى «أحكام القرآن للجصاص» وغيره.
فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
لقد تناول كثير من المفسرين مناقب
أصحاب رسول الله · تحت هذه الآية الكريمة، خصوصا منقبة أبي بكر الصديق رضي الله
عنه، فقد كتب ابن كثير رحمه الله أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قد أحرز جانبا
كبيرا من فضائل هذه الآية الكريمة. راجع للتوسع تفسير البغوي والقرطبي والتفسير
الكبير وروح المعاني والمظهري.
وقال صاحب أنوار البيان:
لقد آذن بالحسنى لجميع الصحابة في
قوله: {وكُلاًّ وعد الله الحسنى} ثم في قوله {والسابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار} للمهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، آذن للجميع بالرضوان بقوله
{رضي الله عنه ورضوا عنه} وآذن بأنه قد أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار. والآن
انظروا إلى ما آذن الله وإلى ما يقوله الروافض المتشدّقون بالإسلام، رفضوا وُعود
الله. واعلموا أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا في مقدمة السابقين الأوّلين،
لكن الروافض لا يُبغضون أحدا مثل ما يُبغضونهما. (فماذا بعد الحق إلا الضلال).
(أنوار البيان)
الحسنى... الجنة:
{وكلا وعد الله الحسنى} وعد الله
الجميع (السابقين واللاحقين والمُنفِقين) الحسنى.
أي المثوبة الحسنى وهي الجنة على ما
روي عن مجاهد وقتادة. وقيل: أعم من ذلك والنصر والغنيمة في الدنيا. (روح المعاني)
مبحث الجهاد في الآية السابعة من سورة الحديد:
لقد تناول العديد من المفسرين مباحث
الجهاد ضمن تفسير الآية السابعة من سورة الحديد، يُرجى مراجعة البحر المحيط،
والجلالين وبيان القرآن. فيما يلي نسرد بعض ما ورد في الجلالين:
قال الله تعالى: { آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ
وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}.
قال الشيخ أحمد علي اللاهوري رحمه
الله:
«إن من مفاتيح السعادة الامتثال لأوامر
الله تعالى، والإنفاق في سبيله، إذ للمُنفقين أجر عظيم». (حاشية اللاهوري)
وفي الجلالين:
{ ءَامَنُواْ } دوموا على الإِيمان { بالله
وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ } في سبيل الله { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ
} مِن مال من تقدّمكم وسيخلفكم فيه من بعدكم ، نزل في غزوة العسرة وهي غزوة تبوك {
فالذين ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ } إشارة إلى عثمان رضي الله عنه { لَهُمْ أَجْرٌ
كَبِيرٌ } .
ثم إن وجه الارتباط الذي ذكره صاحب
بيان القرآن، يؤيّد ما أشرنا إليه من مبحث الجهاد في الآية الكريمة. (والله أعلم
بالصواب)