غزوة خيبر

غزوة خيبر


مقتبسة من السيرة الحلبية وسيرة المصطفى   ·



غزوة خيبر

محرم الحرام سنة سبع من الهجرة

{وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجّل لكم هذه} (سورة الفتح).

كلمة خيبر:

خَيبر بفتح الخاء المعجمة على وزن جعفر. (وخيبر اسم موضع وحصن) وخيبر اسم رجل من العمالقة، قدم إليها، وسكن بها، فاشتهرت به. وكان أخوه يثرب الذي كانت المدينة المنورة تُنسب إليه. كما قالوا.
وقال بعض المؤرخين: خيبر الحصن في لغة اليهود، ويقال لهذه القرية خيابر لما كانت تتزاحم فيها الحصون والقلع.

مدينة خيبر:

وكانت خيبر مدينة واسعة، فيها حصون وحقول وبساتين، بينها وبين المدينة مسافة 8 بريد، كما قال الدمياطي في كتابه في السيرة، وفي كل بريد أربعة فراسخ، وفي كل فرسخ ثلاثة أميال. (فالمسافة بين المدينة وخيبر 96 ميلا).

غزو خيبر:

لمّا رجع النبي · من الحديبية نزلت عليه سورة الفتح، ووعد فيها المؤمنين بشكل عام، وأصحاب بيعة الرضوان بشكل خاص، بفتوح ومغانم كثيرة، ثم منحهم فتح خيبر جزاءً على بيعة الرضوان، إضافة إلى فتح مكة التي لم تتحقق بعدُ، كأنها حصلت لهم، وسوف تتحقق لهم انتصارات عظيمة، نعلمها نحن، لا تعلمونها أنتم، فقد أراد بقوله {فعجّل لكم هذه} فتح خيبر، وفي الآية السابقة {وأثابهم فتحا قريبا} أيضاً فتح خيبر.
 وبعدما رجع النبي · المدينة، أقام ذي الحجة وأوائل المحرم فيها، ثم تلقى أوامر بغزو خيبر، التي يقطنها اليهود الخونة، الذين استقدموا الأحزاب لاجتياح المدينة.

المتغيبون عن الحديبية:

أخبر الله تعالى نبيه أن المنافقين سوف يطلبون منكم الصحبة بعدما بلغتهم بشارة فتح خيبر، فقد جاء أمر الله فيهم أنهم لا يرافقونك فيها، ونزلت هذه الآية:
{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا}. (الفتح 15)

الرحيل إلى خيبر والاستخلاف بالمدينة:

توجه النبي · إلى خيبر في نهاية شهر الله المحرم سنة سبع من الهجرة، يرافقه ألف وأربعمائة مشاة، ومائتا راكب، ومن أزواجه أم سلمة رضي الله عنهم أجمعين. (فتح الباري 7/356)
واستخلف على المدينة نميلة، وقيل سباع بن عرفطة رضي الله عنه، والأصح سباع بن عرفطة، كما أكّد عليه أهل العلم.

عامر بن الأكوع يحدو:

فسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال في مسيره لعامر بن الأكوع، عم سلمة بن عمرو بن الأكوع: احد لنا، فنزل وحداهم يقول:
       اللّهُمّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
وَلَا تَصَدّقْنَا وَلَا صَلّيْنَا    فَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
وَثَبّتْ الْأَقْدَامَ إنْ لَاقَيْنَا      إنّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا
       وَبِالصّيَاحِ عَوّلُوا عَلَيْنَا

الكناية باستشهاد عامر:

فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رحمك الله ! فقال له عمر: هلا امتعتنا به يا رسول الله ! وكان إذا قالها لرجل قتل، فلما نازلوا خيبر بارز عامر فعاد عليه سيفه فجرحه جرحاً شديداً، فمات منه، فقال الناس: إنه قتل نفسه. فقال سلمة ابن أخيه للنبي، صلى الله عليه وسلم، ما قالوا فقال: كذبوا بل له أجره مرتين. (السيرة النبوية لابن كثير، والكامل في التاريخ).

خزائن الجنة:

أخرج الإمام البخاري رحمه الله بسنده قال:
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ أَوْ قَالَ لَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَفَ النَّاسُ عَلَى وَادٍ فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ وَأَنَا خَلْفَ دَابَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَنِي وَأَنَا أَقُولُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فَقَالَ لِي يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. (صحيح البخاري مع الفتح)

دعاء النبي   ·:

وَلَمّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى خَيْبَرَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ قِفُوا ثُمّ قَالَ قُولُوا اللّهُمّ رَبّ السّمَوَاتِ السّبْعِ وَمَا أَظَلّتْ وَرَبّ الْأَرَضِينَ السّبْعِ وَمَا أَقَلّتْ وَرَبّ الرّيَاحِ وَمَا ذَرّتْ فَإِنّا نَسْأَلُك خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا ، وَخَيْرَ مَا فِيهَا ، وَنَعُوذ بِك مِنْ شَرّهَا وَشَرّ مَا فِيهَا . ثُمّ قَالَ اُدْخُلُوا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ. (مغازي الواقدي)

نزوله في خيبر:

وكان قد بلغ النبي · أن غطفان قد جمعت الجموع ليمدّوا يهود خيبر بالرجال والكراع والسلاح، فسار من المدينة حتى نزل بالرجيع بين خيبر وغطفان، ليعترض طريق الإمداد بينهما، وليُلقي الرعب في قلوبهم، فلما عرفت غطفان أن الخطر قد أحاط بها، رجعت إلى ديارها. (ابن هشام 185/2)

الجيش الإسلامي يفاجئ اليهود:

ونزل على خيبر ليلاً ولم يعلم أهلها فخرجوا عند الصباح إلى عملهم بمساحيهم، فلما رأوا عادوا وقالوا: محمد والخميس، يعنون الجيش، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم (فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ) الصافات: 177.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا خَيْبَرَ فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ حَسَرَ الْإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ { فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } قَالَهَا ثَلَاثًا قَالَ وَخَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ فَقَالُوا مُحَمَّدٌ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَالْخَمِيسُ يَعْنِي الْجَيْشَ.
وكانت حصون كثيرة بخيبر لليهود، فبدأ النبي · بالنطاة، ثم بالشق ثم بالكثيبة، وفيه حشدوا أموالهم وأمتاعهم، أما المقاتلون فكانوا مجتمعين في النطاة، وكان نزوله بالقرب منها.

حباب يشير على رسول الله   ·:

فَلَمّا أَصْبَحَ جَاءَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ، إنّك نَزَلْت مَنْزِلَك هَذَا ، فَإِنْ كَانَ عَنْ أَمْرٍ أَمَرْت بِهِ فَلَا نَتَكَلّمُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ الرّأْيُ تَكَلّمْنَا . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ هُوَ الرّأْيُ . فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ دَنَوْت مِنْ الْحِصْنِ وَنَزَلْت بَيْنَ ظُهْرَيْ النّخْلِ وَالنّزّ مَعَ أَنّ أَهْلَ النّطَاةِ لِي بِهِمْ مَعْرِفَةٌ لَيْسَ قَوْمٌ أَبْعَدَ مَدَى مِنْهُمْ وَلَا أَعْدَلَ مِنْهُمْ وَهُمْ مُرْتَفِعُونَ عَلَيْنَا ، وَهُوَ أَسْرَعُ لِانْحِطَاطِ نَبْلُهُمْ مَعَ أَنّي لَا آمَنُ مِنْ بَيَاتِهِمْ يَدْخُلُونَ فِي خَمْرِ النّخْلِ تَحَوّلْ يَا رَسُولَ اللّهِ إلَى مَوْضِعٍ بَرِئَ مِنْ النّزّ وَمِنْ الْوَبَاءِ نَجْعَلْ الْحَرّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حَتّى لَا يَنَالَنَا نَبْلُهُمْ .

تغير المنزل:

ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُقَاتِلهُمْ هَذَا الْيَوْمَ . وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ [ ص 644 ] وَسَلّمَ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَقَالَ اُنْظُرْ لَنَا مَنْزِلًا بَعِيدًا مِنْ حُصُونِهِمْ بَرِيئًا مِنْ الْوَبَاءِ نَأْمَنُ فِيهِ بَيَاتَهُمْ . فَطَافَ مُحَمّدٌ حَتّى انْتَهَى إلَى الرّجِيعِ ، ثُمّ رَجَعَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلًا فَقَالَ وَجَدْت لَك مَنْزِلًا . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ وَقَاتَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَهُ ذَلِكَ إلَى اللّيْلِ يُقَاتِلُ أَهْلَ النّطَاةِ ، يُقَاتِلُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا . وَحُشِدَتْ الْيَهُودُ يَوْمئِذٍ فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ لَوْ تَحَوّلْت يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَمْسَيْنَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَحَوّلْنَا . وَجَعَلْت نَبْلَ الْيَهُودِ تُخَالِطُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ وَتَجَاوَزَهُ وَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْقُطُونَ نَبْلَهُمْ ثُمّ يَرُدّونَهَا عَلَيْهِمْ . فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحَوّلَ وَأَمَرَ النّاسُ فَتَحُولُوا إلَى الرّجِيعِ.
واحتشد اليهود مع نساءهم وذراريهم في الحصون لما رأوا رسول الله ·، فصار النبي · يضربها حصنا بعد حصن.

حصن ناعم:

وكان أول حصن سقط على يدي رسول الله ·، وكان محمود بن مسلمة جالسا تحته، فدلّى عليه اليهود رحى أصاب رأسه، فقتله.

حصن قموص:

ثم فتح الله عليهم حصن قموص، وكان حصنا محكما من حصون خيبر، حاصره المسلمون، فلم يخرج إليه النبي · لمّا اشتد عليه الألم، وزادت حدته، فأعطى اللواء أبا بكر ثم بعثه، فاجتهد لكنه لم يُفتح عليه، ثم بعث عمر، فأجهد في فتحه لكنه رجع ولم يفتح.

محاولات غير ناجحة منذ سبعة أيام:

جاء في بعض الروايات أن أهل النطاة دافعوا عنه سبعة أيام، يغدو النبي · كل يوم ومعه محمد بن مسلمة، ويخلف عثمان بن عفان على المعسكر، حتى إذا أمسى رجع، ويُداوى الجرحى، ويتلقون العلاج.

تسليم الراية... على لسان رسول الله   ·:

فلما أصبح النبي · قال لمحمد بن مسلمة:
«لأُعْطِيَنّ الرّايَةَ غَدًا رَجُلًا يُحِبّهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ يَفْتَحُ اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ لَيْسَ بِفَرّارٍ أَبشر يَا مُحَمّدُ بْنَ مَسْلَمَةَ غَدًا ، إنْ شَاءَ اللّهُ يُقْتَلُ قَاتِل أَخِيك».

الصحابة يتمنون الراية:

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ قَالَ فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، وكان عمر رضي الله عنه يقول: لم أتمنى قيادة الكتيبة إلا تلك الليلة. فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا فَقَالَ أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالُوا يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ فَأْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَ بَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرَأَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَقَالَ عَلِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ. (أخرجه البخاري)

مرحب يبارز:

ثم خرج مرحب أحد أبطال اليهود يرتجز وهو يقول:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَب ُ       شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرّبُ
فخرج عامر بن الأكوع يرتجز وهو يقول:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي عامر       شَاكِي السّلَاحِ بَطَلٌ مُغامر
وَغَدَا عَامِرُ بْنُ سِنَانٍ فَلَقِيَ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ ، وَبَدَرَهُ الْيَهُودِيّ فَيَضْرِبُ عَامِرًا ، قَالَ عَامِرٌ [ ص 662 ] فَاتّقَيْته بِدَرَقَتِي فَنَبَا سَيْفُ الْيَهُودِيّ عَنْهُ . قَالَ عَامِرٌ فَأَضْرِبُ رِجْلَ الْيَهُودِيّ فَأَقْطَعُهَا ، وَرَجَعَ السّيْفُ عَلَى عَامِرٍ فَأَصَابَهُ ذُبَابُهُ فَنَزَفَ فَمَاتَ . فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَبَطَ عَمَلُهُ . فَبَلَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ إنّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ إنّهُ جَاهَدَ مُجَاهِدٌ ، وَإِنّهُ لَيَعُومُ فِي الْجَنّةِ عَوْمَ الدّعْمُوصِ .
وفي رواية ابن إسحاق قال: هو شهيد، ثم صلّى عليه.

أسد الله ينزل إلى الساحة:

ثم تقدم علي بن أبي طالب إلى الحصن يرفرف الراية، ثم غرزها تحته، وكان يهودي قاعدا أعلاه، فقال: أنا علي بن أبي طالب.
فقال اليهودي: لقد تكابرتم، تعلم أن الحق ما اُنزل على موسى عليه السلام.
ثم خرج اليهود من الحصن وتقدموا إلى علي، يقدمهم حارث، أخو مرحب، (ومرحب زعيم اليهود) واشتهر حارث بشجاعته، فلما رآه المسلمون يتقدم، انكشفوا عنه، وبقي علي بن أبي طالب في موضعه، ولم يهرب، فضربه حارث، ثم تبادلا ضربتين، حتى قتله علي، فلما رأى ذلك اليهود، تراجعوا، وعادوا إلى الحصن.

مواجهة مرحب:

ولمّا مرحب أن أخاه قد لقي مصرعه بيد علي بن أبي طالب، خرج شاكي السلاح، وعليه درعان، وسيفان، وعمامتان ومغفران، مع فتحة صغيرة أمام العينين، وبيده حربة فيها ثلاثة رؤوس حادة، ثم تقدم يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب    شاكي السلاح بطل مجرب
فقال علي:
أنا الذي سمّتني أمّي حيدره    كليث غابات كريه المنظرة

علي يوجّه ضربة قاضية:

فلما تقدما سبقه علي بضربة سيف، فتوقاه مرحب بتُرس، لكن الضربة كانت قوية حتى انقطع الترس والمغفر والحجارة التي تحته، والعمامتان اللتان تحتها حتى بلغ جمجمته فشقها اثنتين، وتعلّق السيف بنواجذه.

مبارزة ياسر أخو مرحب:

ثم تقدم أخوه ياسر، وكان يرتجز فيقول:
قد علمت خيبر أني ياسر     شاكي السلاح بطل مغادر

يرد عليه الزبير..

ثُمّ بَرَزَ يَاسِرٌ وَكَانَ مِنْ أَشِدّائِهِمْ وَكَانَتْ مَعَهُ حَرْبَةٌ يَحُوشُ بِهَا الْمُسْلِمِينَ حَوْشًا ، فَبَرَزَ لَهُ عَلِيّ رضي الله عنه فَقَالَ الزّبَيْرُ أَقَسَمْت عَلَيْك أَلّا خَلّيْت بَيْنِي وَبَيْنَهُ . فَفَعَلَ عَلِيّ وَأَقْبَلَ يَاسِرٌ بِحَرْبَتِهِ يَسُوقُ بِهَا النّاسَ فَبَرَزَ لَهُ الزّبَيْرُ فَقَالَتْ صَفِيّةُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَاحَزَنَى ابْنِي يُقْتَلُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ بَلْ ابْنُك يَقْتُلُهُ . قَالَ فَاقْتَتَلَا فَقَتَلَهُ الزّبَيْرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِدَاك عَمّ وَخَالٌ وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِكُلّ نَبِيّ حَوَارِيّ وَحَوَارِيّ الزّبَيْرُ وَابْنُ عَمّتِي.

إسلام أسود الراعي:

وكان شعار المسلمين يوم خيبر «اَمِتْ اَمِتْ» وفي رواية «يا منصور اَمِت اَمِت» وكان بين قتلى المسلمين يوم خيبر عبد أسود واسمه «يسار الحبشي» لعامر اليهودي في غنم له، قيل اسمه: إسلام. وفي كتاب الامتاع اسمه: يسار.
فَلَمّا رَأَى أَهْلَ خَيْبَرَ يَتَحَصّنُونَ وَيُقَاتِلُونَ سَأَلَهُمْ فَقَالُوا : نُقَاتِلُ هَذَا الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ . قَالَ فَوَقَعَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ فِي نَفْسِهِ فَأَقْبَلَ بِغَنَمِهِ يَسُوقُهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ مَا تَقُولُ ؟ مَا تَدْعُو إلَيْهِ ؟
قَالَ أَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ فَأَشْهَدُ أَنّ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ .
قَالَ فَمَا لِي ؟ قَالَ الْجَنّةُ إنْ ثَبَتّ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ فَأَسْلَمَ .
وَقَالَ إنّ غَنَمِي هَذِهِ وَدِيعَةٌ .
فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْرِجْهَا مِنْ الْعَسْكَرِ ثُمّ صِحْ بِهَا وَارْمِهَا بِحَصَيَاتٍ فَإِنّ اللّه عَزّ وَجَلّ سَيُؤَدّي عَنْك أَمَانَتَك .
فَفَعَلَ الْعَبْدُ فَخَرَجْت الْغَنَمُ إلَى سَيّدِهَا ، وَعَلِمَ الْيَهُودِيّ أَنّ عَبْدَهُ قَدْ أَسْلَمَ .

جهاده واستشهاده ومكانته العالية:

وَوَعَظَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ وَفَرّقَ بَيْنَهُمْ الرّايَاتِ وَكَانَتْ ثَلَاثَ رَايَاتٍ وَلَمْ تَكُنْ رَايَةٌ قَبْلَ يَوْمِ خَيْبَرَ ، إنّمَا كَانَتْ الْأَلْوِيَةُ وَكَانَتْ رَايَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّوْدَاءَ مِنْ بُرْدٍ لِعَائِشَةَ تُدْعَى الْعِقَابَ وَلِوَاؤُهُ أَبْيَضُ وَدَفَعَ رَايَةً إلَى عَلِيّ رضي الله عنه وَرَايَةً إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَرَايَةً إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَخَرَجَ عَلِيّ رضي الله عنه بِالرّايَةِ وَتَبِعَهُ الْعَبْدُ الْأَسْوَدُ فَقَاتَلَ حَتّى قُتِلَ فَاحْتُمِلَ فَأُدْخِلَ خِبَاءً مِنْ أَخْبِيَةِ الْعَسْكَرِ فَاطّلَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ [ ص 650 ] وَسَلّمَ فِي الْخِبَاءِ.
فَقَالَ لَقَدْ كَرّمَ اللّهُ هَذَا الْعَبْدَ الْأَسْوَدَ وَسَاقَهُ إلَى خَيْبَرَ ، وَكَانَ الْإِسْلَامُ مِنْ نَفْسِهِ حَقّا، قَدْ رَأَيْت عِنْدَ رَأْسِهِ زَوْجَتَيْنِ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ .
وباختصار فتح الله هذا الحصن على المسلمين بيد علي بن أبي طالب بعد قتال دام عشرين يوما، فغنموا أموالا كثيرة وأسرى وذراري اليهود، منهم صفية رضي الله عنها بنت حيي بن الأخطب، سيد بني النضير، وكانت زوجة كنانة بن الربيع.

(3) حصن صعب بن معاذ:

ثم فتح الله عليهم حصن صعب بن معاذ.

المسلمون يعانون من شح حاد في المواد الغذائية:

قَالَ مُعَتّبٌ الْأَسْلَمِيّ أَصَابَنَا مَعْشَرَ أَسْلَمَ خَصَاصَةً حِينَ قَدِمْنَا خَيْبَرَ ، وَأَقَمْنَا عَشَرَةَ أَيّامٍ عَلَى حِصْنِ النّطَاةِ لَا نَفْتَحُ شَيْئًا فِيهِ طَعَامٌ فَأَجْمَعَتْ أَسْلَمُ أَنْ يُرْسِلُوا أَسَمَاءَ بْنَ حَارِثَةَ فَقَالُوا : ائْتِ مُحَمّدًا رَسُولَ اللّهِ فَقُلْ إنّ أَسْلَمَ يُقْرِئُونَك السّلَامَ وَيَقُولُونَ إنّا قَدْ جَهْدَنَا مِنْ الْجَوْعِ وَالضّعْفِ . فَقَالَ بُرَيْدَة بْنُ الْحُصَيْبِ وَاَللّهِ إنْ رَأَيْت كَالْيَوْمِ قَطّ أَمْرًا بَيْنَ الْعَرَبِ يَصْنَعُونَ [ فِيهِ ] هَذَا فَقَالَ هِنْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَاَللّهِ إنّا لَنَرْجُو أَنْ تَكُونَ الْبِعْثَةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِفْتَاحَ الْخَيْرِ . فَجَاءَهُ أَسَمَاءُ بْنُ حَارِثَةَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَسْلَمَ تَقُولُ إنّا قَدْ جَهِدْنَا مِنْ الْجُوعِ وَالضّعْفِ فَادْعُ اللّهَ لَنَا . فَدَعَا لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ وَاَللّهِ مَا بِيَدِي مَا أَقْرِيهِمْ . ثُمّ صَاحَ بِالنّاسِ فَقَالَ اللّهُمّ افْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حِصْنٍ فِيهِ أَكْثَرُهُ طَعَامًا وَأَكْثَرُهُ وَدَكًا . وَدَفَعُوا اللّوَاءَ إلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ وَنَدَبَ النّاسَ فَمَا رَجَعْنَا حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْنَا الْحِصْنَ - حِصْنَ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ . فَقَالَتْ أُمّ مُطَاعٍ الْأَسْلَمِيّة ، وَكَانَتْ قَدْ شَهِدَتْ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي نِسَاءٍ قَالَتْ لَقَدْ رَأَيْت أَسْلَمَ حِينَ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا شَكَوْا مِنْ شِدّةِ الْحَالِ فَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ فَنَهَضُوا ، فَرَأَيْت أَسْلَمَ أَوّلَ مَنْ انْتَهَى إلَى حِصْنِ الصّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَإِنّ عَلَيْهِ لَخَمْسُمِائَةِ مُقَاتِلٍ فَمَا غَابَتْ الشّمْسُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتّى فَتَحَهُ اللّهُ وَكَانَ عَلَيْهِ قِتَالٌ شَدِيدٌ .

وفرة الإمدادات الغذائية :

وكان هذا من أحد حصون خيبر التي تشحن بالمواد الغذائية، ففيه القمح والتمر والودك والزيتون والسمن والماشية وأمتعة أخرى كثيرة.

مواجهات فردية في حصن الصعب:

وكان في حصن الصعب خمسمائة مقاتل من اليهود، فخرج أحدهم ودعا للمبارزة، واسمه يوشع، فخرج حباب بن المنذر من بين صفوف المسلمين، فقتله.
وَبَرَزَ آخَرُ يُقَالُ لَهُ الزّيّالُ فَبَرَزَ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ عُقْبَةَ الْغِفَارِيّ فَبَدَرَهُ الْغِفَارِيّ فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً عَلَى هَامَتِهِ وَهُوَ يَقُولُ خُذْهَا وَأَنَا الْغُلَامُ الْغِفَارِيّ فَقَالَ النّاسُ بَطَلُ جِهَادِهِ . فَبَلَغَ رَسُولُ اللّهِ [ ص 660 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا بَأْسُ بِهِ يُؤْجَرُ وَيُحْمَدُ .

هجوم يهودي شديد:

ثم حمل اليهود على المسلمين حملة شديدة فانكشف المسلمون وانتشروا وواصل اليهود تقدمهم، حتى وصلوا إلى النبي ·، وكان النبي · قد نزل عن فرسه ووقف بالأرض.

رد إسلامي شديد والفتح:

وثبت حباب بن المنذر، وواجه اليهود، يرد عليهم، فحرّض النبي · على الجهاد ووعظهم، فتوقف المسلمون وكرّوا على اليهود، وحملوا عليهم حملة رجل واحد، فلم يقدروا على دفعها وتراجعوا حتى وصلوا إلى أبواب الحصون، وأغلقوا الأبواب، فحمل المسلمون على الحصن حتى دخلوه وصاروا يأخذونهم ويقتلونهم (ففتح الله عليهم الحصن) وغنموا التمر والسمن والعسل والسكر والزيتون والودك بكثرة.
ورأى النبي · النار في الجوانب كلها، فقال: ما هذه النار، قالوا: يطبخون اللحم، فقال: لحم ماذا؟ فقالوا: لحوم الحمر الأهلية، فقال: إنها نجس فاقلبوا القدور، واكسروا الأواني، قالوا يا رسول الله أنرمي اللحم؟ ونغسل الأواني؟ فأذن لهم بذلك.

(4) حصن قُلّة:

ثم لجأ اليهود إلى حصن قلة، وكان حصنا محكما على ذروة جبل، ولذلك سُمّي بالقُلة، وهي رأس الجبل، واشتهر فيما بعد بقلعة الزبير، لأنها وقعت في نصيب الزبير بن العوام بعد مقسم الغنيمة.
حاصر المسلمون هذا الحصن ثلاثة أيام، فخرج يهودي وجاء إلى النبي · وقال: يا أبا القاسم إن حاصرتهم شهرا لا يهمهم فلديهم من الطعام والشراب ما يكفيهم لأطول منه، وتحت أراضيهم من عيون، يخرجون إليها في الليل ثم يملأون أوانيهم ويعودون، فلو قطعت عنهم الماء غلبتَ عليهم، ففعل النبي ·، فاضطر اليهود على الخروج، وخاضوا قتالا عنيفا، فقُتل منهم عشرة، وقُتل من المسلمين بعضهم، حتى فتح الله عليهم الحصن.
قال الحافظ ابن كثير: هذا آخر حصون النطاة، وعقبها توجه النبي · إلى منطقة الشق وحصونها، ففتح حصن اُبي بعد قتال عنيف، ثم دخله المسلمون، ومنه تقدموا إلى حصون أخرى.

(5) الوطيح والسلالم:

ثم تقدّم النبي · إلى بقية الحصون، فلما فتح الجميع، تقدم إلى الوطيح والسلالم، وورد في بعض الروايات ذكر الكتيبة، وما كانت قبلها من الحصون سقطت بيد المسلمين، ولم يسلم لليهود إلا الوطيح والسلالم، فكانوا يتكلون عليهما، فاجتمعوا فيهما من الأطراف كلها، ففرض النبي · عليهما حصارا شديدا، واستمر لمدة أربع عشرة يوما، حتى طلبوا الصلح، فوافق عليه النبي · قَالُوا : وَأَرْسَلَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْزِلْ فَأُكَلّمَك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ . قَالَ فَنَزَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَصَالَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حَقْنِ دِمَاءِ مَنْ فِي حُصُونِهِمْ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ وَتَرَكَ الذّرّيّةَ لَهُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْ خَيْبَرَ وَأَرْضِهَا بِذَرَارِيّهِمْ وَيُخَلّونَ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ أَوْ أَرْضٍ وَعَلَى الصّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالْكُرَاعِ وَالْحَلْقَةِ وَعَلَى الْبَزّ إلّا ثَوْبًا عَلَى ظَهْرِ إنْسَانٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَرِئَتْ مِنْكُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ إنْ كَتَمْتُمُونِي شَيْئًا . فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْأَمْوَالِ فَقَبَضَهَا ، الْأَوّلُ فَالْأَوّلُ وَبَعَثَ إلَى الْمَتَاعِ وَالْحَلْقَةِ فَقَبَضَهَا ، فَوَجَدَ مِنْ الدّرُوعِ مِائَةَ دِرْعٍ وَمِنْ السّيُوفِ أَرْبَعَمِائَةِ سَيْفٍ وَأَلْفَ رُمْحٍ وَخَمْسَمِائَةِ قَوْسٍ عَرَبِيّةٍ بِجِعَابِهَا . فَسَأَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ عَنْ كَنْزِ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَحُلِيّ مِنْ حُلِيّهِمْ كَانَ يَكُونُ فِي مَسْكِ الْجَمَلِ كَانَ أَسْرَاهُمْ يُعْرَفُ بِهِ وَكَانَ الْعُرْسُ يَكُونُ بِمَكّةَ فَيَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَعَارُ ذَلِكَ الْحُلِيّ الشّهْرَ فَيَكُونُ فِيهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ الْحُلِيّ يَكُونُ عِنْدَ الْأَكَابِرِ فَالْأَكَابِرِ مِنْ آلِ أَبِي الْحُقَيْقِ. فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَنْفَقْنَاهُ فِي حَرْبِنَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ وَكُنّا نَرْفَعُهُ لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فَلَمْ تُبْقِ الْحَرْبُ وَاسْتِنْصَارُ الرّجَالِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا . وَحَلَفَا عَلَى ذَلِكَ فَوَكّدَا الْأَيْمَانَ وَاجْتَهَدَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمَا : [ ص 672 ] بَرِئَتْ مِنْكُمَا ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ إنْ كَانَ عِنْدَكُمَا قَالَا : نَعَمْ . ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكُلّ مَا أَخَذْت مِنْ أَمْوَالِكُمَا وَأَصَبْت مِنْ دِمَائِكُمَا فَهُوَ حِلّ لِي وَلَا ذِمّةَ لَكُمَا قَالَا : نَعَمْ . وَأَشْهَدَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعَلِيّا ، وَالزّبِيرَ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِمْ وَعَشَرَةً مِنْ الْيَهُودِ . فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ إلَى كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ إنْ كَانَ عِنْدَك مَا يَطْلُبُ مِنْك مُحَمّدٌ أَوْ تَعْلَمُ عِلْمَهُ فَأَعْلِمْهُ فَإِنّك تَأْمَنُ عَلَى دَمِك ، وَإِلّا فَوَاَللّهِ لَيَظْهَرَنّ عَلَيْهِ قَدْ اطّلَعَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ بِمَا لَمْ نَعْلَمْهُ . فَزَبَرَهُ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَتَنَحّى الْيَهُودِيّ فَقَعَدَ . ثُمّ سَأَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَلّامِ بْن أَبِي الْحُقَيْقِ - وَكَانَ رَجُلًا ضَعِيفًا - عَنْ كَنْزِهِمَا ، فَقَالَ لَيْسَ لِي عِلْمٌ غَيْرَ أَنّي قَدْ كُنْت أَرَى كِنَانَةَ كُلّ غَدَاةٍ يَطُوفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ - قَالَ وَأَشَارَ إلَى خَرِبَةٍ - فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ دَفَنَهُ فَهُوَ فِيهَا . وَكَانَ كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ لَمّا ظَهَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى النّطَاةِ أَيْقَنَ بِالْهَلَكَةِ - وَكَانَ أَهْلُ النّطَاةِ أَخَذَهُمْ [ الرّعْبُ ] - فَذَهَبَ بِمَسْكِ الْجَمْلِ فِيهِ حَلِيّهُمْ فَحَفَرَ لَهُ فِي خَرِبَةٍ لَيْلًا وَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ ، ثُمّ سَوّى عَلَيْهِ التّرَابَ بِالْكَتِيبَةِ وَهِيَ الْخَرِبَةُ الّتِي رَآهُ ثَعْلَبَةُ يَدُورُ بِهَا كُلّ غَدَاةٍ . فَأَرْسَلَ مَعَ ثَعْلَبَةَ الزّبَيْرَ بْنَ الْعَوَامّ وَنَفَرًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى تِلْكَ الْخَرِبَةِ فَحَفَرَ حَيْثُ أَرَاهُ ثَعْلَبَةُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذَلِكَ الْكَنْزَ وَيُقَالُ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ دَلّ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ الْكَنْزِ . فَلَمّا أُخْرِجَ الْكَنْزُ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الزّبَيْرَ أَنْ يُعَذّبَ كِنَانَةَ بْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ حَتّى يَسْتَخْرِجَ كُلّ مَا عِنْدَهُ . فَعَذّبَهُ الزّبَيْرُ حَتّى جَاءَهُ بِزَنْدٍ يَقْدَحُهُ فِي صَدْرِهِ ثُمّ أَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ [ ص 673 ] يَقْتُلُهُ بِأَخِيهِ فَقَتَلَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ . وَأَمَرَ بِابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ الْآخَرِ فَعُذّبَ ثُمّ دُفِعَ إلَى وُلَاةِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ فَقُتِلَ بِهِ وَيُقَالُ ضُرِبَ عُنُقُهُ . وَاسْتَحَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِذَلِكَ أَمْوَالَهُمَا وَسَبَى ذَرَارِيّهُمَا . فَحَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ الرّبِيعَةِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ هِلَالِ بْنِ أُسَامَةَ عَمّنْ نَظَرَ إلَى مَا فِي مَسْكِ الْجَمْلِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أُتِيَ بِهِ فَإِذَا جُلّهُ أَسْوِرَةٌ الذّهَبِ وَدَمَالِجُ الذّهَبِ وَخَلَاخِلُ الذّهَبِ وَقِرَطَةُ الذّهَبِ وَنَظْمٌ مِنْ جَوْهَرٍ وَزُمُرّدٍ وَخَوَاتِمُ ذَهَبٍ وَفَتَخٌ بِجَزْعِ ظَفَارِ مُجَزّعٌ بِالذّهَبِ . وَرَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِظَامًا مِنْ جَوْهَرٍ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ أَهْلِهِ إمّا عَائِشَةُ أَوْ إحْدَى بَنَاتِهِ فَانْصَرَفَتْ فَلَمْ تَمْكُثْ إلّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ حَتّى فَرّقَتْهُ فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْأَرَامِلِ فَاشْتَرَى أَبُو الشّحْمِ ذُرَةً مِنْهَا . فَلَمّا أَمْسَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَارَ إلَى فِرَاشِهِ لَمْ يَنَمْ فَغَدَا فِي السّحَرِ حَتّى أَتَى عَائِشَةَ ، وَلَمْ تَكُنْ لَيْلَتَهَا ، أَوْ بِنْتَه ، فَقَالَ رُدّي عَلَيّ النّظَامَ فَإِنّهُ لَيْسَ لِي ، وَلَا لَك فِيهِ حَقّ . فَخَبّرَتْهُ كَيْفَ صَنَعْت بِهِ فَحَمد اللّه وَانْصَرَفَ .

صفية بين أسرى الحرب:

وكانت صفية بنت حُيي بن الأخطب بين الأسرى، وكانت من سلالة نبي الله هارون بن عمران، أخ موسى عليه السلام، فاختار منهم صفية.
وكان قد خيّرها النبي · قبله، إن شاءت أعتقها النبي · فتعود إلى من تبقى من أهلها وذويها، أو تسلم فيختارها النبي · لنفسه.
فقالت: لا، بل أختار الله ورسوله.

رؤيا صفية:

وَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيّ تَقُولُ كَانَ ذَلِكَ النّظَامُ لِبِنْتِ كِنَانَةَ . وَكَانَتْ صَفِيّةُ تَحْتَ كِنَانَةَ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَاهَا قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْكَتِيبَةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَرْسَلَ بِهَا مَعَ بَلَالٍ إلَى رَحْلِهِ . فَمَرّ بِهَا وَبِابْنَةِ عَمّهَا عَلَى الْقَتْلَى ، فَصَاحَتْ ابْنَةُ عَمّهَا صِيَاحًا شَدِيدًا ، فَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ بَلَالٌ فَقَالَ أَذَهَبَتْ مِنْك الرّحْمَةُ ؟ تَمُرّ بِجَارِيَةٍ حَدِيثَةِ السّنّ عَلَى [ ص 674 ] الْقَتْلَى فَقَالَ بَلَالٌ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ ذَلِكَ وَأَحْبَبْت أَنْ تَرَى مَصَارِعَ قَوْمِهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَابْنَةِ عَمّ صَفِيّةَ مَا هَذَا إلّا شَيْطَانٌ . وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ قَدْ نَظَرَ إلَى صَفِيّةَ فَسَأَلَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُقَالُ إنّهُ وَعَدَهُ جَارِيَةً مِنْ سَبْيِ خَيْبَرَ ، فَأَعْطَاهُ ابْنَةَ عَمّهَا .
وَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ أَبِي حَرْمَلَةَ ، عَنْ أُخْتِهِ أُمّ عَبْدِ اللّهِ عَنْ ابْنَةِ أَبِي الْقَيْنِ الْمُزَنِيّ ، قَالَتْ كُنْت آلَفُ صَفِيّةَ مِنْ بَيْنَ أَزْوَاجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ تُحَدّثُنِي عَنْ قَوْمِهَا وَمَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْهُمْ قَالَتْ خَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ حَيْثُ أَجْلَانَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَمْنَا بِخَيْبَرَ ، فَتَزَوّجَنِي كِنَانَةُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ فَأَعْرَسَ بِي قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَيّامٍ وَذَبَحَ جُزُرًا وَدَعَا بِالْيَهُودِ وَحَوّلَنِي فِي حِصْنِهِ بِسُلَالِمَ فَرَأَيْت فِي النّوْمِ كَأَنّ قَمَرًا أَقْبَلَ مِنْ يَثْرِبَ يَسِيرُ حَتّى يَقَعَ فِي حِجْرِي . فَذَكَرْت ذَلِكَ لَكِنَانَةَ زَوْجِي فَلَطَمَ عَيْنِي فَاخْضَرّتْ فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ دَخَلْت عَلَيْهِ فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْته . قَالَتْ وَجَعَلَتْ الْيَهُودُ ذَرَارِيّهَا فِي الْكَتِيبَةِ ، وَجَرّدُوا حِصْنَ النّطَاةِ لِلْمُقَاتِلَةِ فَلَمّا نَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْبَرَ وَافْتَتَحَ حُصُونَ النّطَاةِ ، وَدَخَلَ عَلَيّ كِنَانَةُ فَقَالَ قَدْ فَرَغَ مُحَمّدٌ مِنْ النّطَاةِ ، وَلَيْسَ هَا هُنَا أَحَدٌ يُقَاتِلُ قَدْ قُتِلَتْ الْيَهُودُ حَيْثُ قُتِلَ أَهْلُ النّطَاةِ وَكَذَبَتْنَا الْعَرَبُ . فَحَوّلَنِي إلَى حِصْنِ النّزَارِ بِالشّقّ - قَالَ وَهُوَ أَحْصَنُ مِمّا عِنْدَنَا - فَخَرَجَ حَتّى أَدْخَلَنِي وَابْنَةَ عَمّي وَنُسَيّاتٍ مَعَنَا . فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْنَا قَبْلَ الْكَتِيبَةِ فَسُبِيت فِي النّزَارِ قَبْلَ أَنْ [ ص 675 ] يَنْتَهِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْكَتِيبَةِ ، فَأَرْسَلَ بِي إلَى رَحْلِهِ ثُمّ جَاءَنَا حِينَ أَمْسَى فَدَعَانِي ، فَجِئْت وَأَنَا مُقَنّعَةٌ حَيِيّةٌ فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ إنْ أَقَمْت عَلَى دِينِك لَمْ أُكْرِهْك ، ، وَإِنْ اخْتَرْت اللّهَ وَرَسُولَهُ فَهُوَ خَيْرٌ لَك . قَالَتْ أَخْتَارُ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالْإِسْلَامَ . فَأَعْتَقَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَزَوّجَنِي وَجَعَلَ عِتْقِي مَهْرِي ، فَلَمّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْمَدِينَةِ قَالَ أَصْحَابُهُ الْيَوْمَ نَعْلَمُ أَزَوْجَةً أَمْ سُرّيّةً فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتَهُ فَسَيُحَجّبُهَا وَإِلّا فَهِيَ سُرّيّةٌ . فَلَمّا خَرَجَ أَمَرَ بِسِتْرٍ فَسَتَرَتْ بِهِ فَعَرَفَ أَنّي زَوْجَةٌ ثُمّ قَدِمَ إلَى الْبَعِيرِ وَقَدّمَ فَخِذَهُ لِأَضَعَ رِجْلِي عَلَيْهَا ، فَأَعْظَمَتْ ذَلِكَ وَوَضَعْت فَخِذِي عَلَى فَخِذِهِ ثُمّ رَكِبْت . وَكُنْت أَلْقَى مِنْ أَزْوَاجِهِ يَفْخَرْنَ عَلَيّ يَقُلْنَ يَا بِنْتَ الْيَهُودِيّ . وَكُنْت أَرَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُلَطّفُ بِي وَيُكْرِمُنِي ، فَدَخَلَ عَلَيّ يَوْمًا وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ مَا لَك ؟ فَقُلْت : أَزْوَاجُك يَفْخَرْنَ عَلَيّ وَيَقُلْنَ يَا بِنْتَ الْيَهُودِيّ . قَالَتْ فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ غَضِبَ ثُمّ قَالَ إذَا قَالُوا لَك أَوْ فَاخَرُوك فَقُولِي : أَبِي هَارُونُ وَعَمّي مُوسَى .
وقيل إن الذي لطمها أبوها حيي بن الأخطب، إذ ذكرت الرؤيا له، فلطمها، ولا مانع من اجتماعهما، إذ يحتمل أنها ذكرت ما رأته للزوج والوالد، وكلاهما قد لطماها.

فتح فدك:

ولمّا بلغ أهل فدك أن اليهود صالحوا النبي ·، فحقن دماءهم، أرسلوا إليه يريدون الصلح، على أن يحقن دمائهم فيخلوا بين أموالهم وأراضيهم وبين النبي ·، ويجلون منها، وتحدث عنهم محيّصة بن مسعود، وبما أن الله فتح على رسوله أراضي فدك بدون قتال لم يركبوا إليها خيلا ولا ركابا، لذلك بقيت تحت يد النبي ·، ولم تُقسّم على الغانمين. (سيرة ابن هشام)

فائدة:

بلغ عدد المسلمين الذين اُستشهدوا في هذه المعركة إلى 14 وقيل 15، فيما لقي 93 كافراً مصرعه.

المخابرة:

لما فُتحت خيبر، وعادت أرضها إلى الله ورسوله والإسلام، أراد النبي · أن ينجلي اليهود منها (حسبما اتفقا) لكن اليهود طلبوا منه · أن يسمحهم بالبقاء فيها، فيحرثون الأرض ويزرعونها، ويكون نصف ما يخرج منها للنبي ·، فوافق النبي · عليه، لكنه قال لهم بصراحة:
«نقركم على ذلك ما شئنا». (صحيح البخاري 310/1)
فهذه أول سابقة في الإسلام، لذلك سمّيت بالمخابرة.
ولمّا حان وقت الحصاد أرسل النبي · عبد الله بن رواحة لتقدير المحاصيل. (باب الخرص سنن أبي داود 28/2)
وكان عبد الله بن رواحة يقسّم المحاصيل قسمين، ثم يدعوهم فيقول لهم: خذوا أيهما شئتم، فكانوا يقولون بعدما رأوا منه من العدل والإنصاف ما أعجبهم: بفضل هذا العدل والإنصاف كان بقاء الأرض والسماوات. وفي رواية قال عبد الله بن رواحة:
يا معشر اليهود أنتم أبغض الخلق إليّ، قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله، وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيف عليكم.

تقسيم غنائم خيبر:

لم تكن بين مغانم خيبر الذهب والفضة، إنما كانت الأبقار والأغنام والإبل والمتاع، وكانت أعظمها أراضيها وبساتينها، فما كانت غير الأراضي والبساتين فقد قسّمها النبي · بين الغانمين في ضوء الآية القرآنية، أما الأراضي فقد قسّمها على أهل الحديبية.
أما عن كيفية تقسيمها، فقد ذكرها أبوداود في سننه، أن النبي · فرز الخمس منها، فما بقي من أراضيها قسمها ستا وثلاثين سهما، فرز منها ثمانية أسهم، أي جعلها في مصالح المسلمين، فلم يقسمها على الغانمين، وقَسَّم ثمانية عشر سهما الباقي على الغانمين، في كل سهم مائة نصيب، وزّعها على أهالي الحديبية كما أمره الله تعالى.
أما الأراضي التي لم يقسمها، وهي تشكل نصف مجموع أراضيها، فهي الكتيبة والوطيح والسلالم والأراضي المجاورة لها.
قسّم نصف أراضي خيبر على أهل الحديبية، منها الشق والنطاة وما جاورتها، هذا وفق ما أخرجه أبوداود عن سهل بن أبي خيثمة مع الوصل، وعن بشير بن يسار التابعي مرسلا.
وقال الإمام الطحاوي: لم يقسم النبي · جميع أراضي خيبر، إنما قسّم الشق والنطاة وما جاورتها على الغانمين، واحتفظ بالباقي لمصالح عموم المسلمين.
أما عن تقسيم ثمانية عشر سهما، فالروايات فيه مختلفة، ففي الرواية المشهورة كانوا ألفا وأربعمائة مقاتلين، بينهم مائتا فارس، فأربعة عشر سهما لألف وأربعمائة مقاتل، في كل سهم مائة مقاتل، وعند مالك والشافعي وأحمد للفرس سهمان، وبناءً عليه سهمان لمائتي فرس، وهكذا أربعة سهام مع أربعة عشر سهما يصير المجموع ثمانية عشر سهما.
وفي سنن أبي داود عن مجمع بن جارية رضي الله عنه أن عدد الغانمين في خيبر كان ألفا وخمسمائة، بينهم ثلاثمائة راكب، فأعطى النبي · لكل راكب سهمين، ولكل راجل سهما.
وهي رواية تُطابق مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله تعالى، فعنده للراكب سهمان، سهم لفرسه، وسهم له، ومثله رُوي عن علي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.
فباختصار، إن النبي · قسّم نصف أراضي خيبر على أهالي الحديبية، ولم يعط أحداً غيرهم، لكن الأحاديث تشير إلى أن النبي · أعطى منها أصحاب السفينة، وهم جعفر وأبو موسى الأشعري وغيرهم، وكانوا مائة عادوا من الحبشة.
ولم يتضح بعدُ أن الذي أعطاهم كان من الخُمس أم من الغنيمة، أو أعطاهم شيئا من الأموال التي يمكن نقلها من باب المساعدة، كما لا يُدري هل أعطاهم برأيه وباختياره، أم بعدما استأذن الغانمين. والله أعلم
كما شهدت خيبر عدد من النساء والعبيد بنية الخدمة والمساعدة، فأعطاهم من غنائم خيبر من باب الإعانة، ولم يعطهم شيئا من الأراضي مثل ما أعطى الرجال، كما يبدو ذلك مما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي.

قدوم أبي هريرة:

قدم أبو هريرة رضي الله عنه في جمع من الدوسيين إلى النبي · بعد فتح خيبر، فلم يعطهم شيئا من مغانمها. (صحيح البخاري، غزوة خيبر)

قصة السم:

أقام النبي · أياما بخيبر بعد الفتح، وفيها جاءت زينب بنت حارث زوجة سلام بن مشكم بشاة مشوية، وقدمها إلى النبي ·، وقد وضعت فيها السم، فلما تذوّقها النبي · امتنع عنها، وكان معه بشر بن البراء بن المعرور رضي الله عنه يأكل معه منها، فنهاه النبي · عن الأكل، وقال: فيها سم.
ثم استدعى زينب وسألها عنها، فأقرت بأنها وضعت السم فيها، وقالت: إن كنت نبيا صادقا أخبرك الله عنها، وإن كنت كاذبا استراح الناس منك، ولم يكن النبي · يكن ينتقم من أحد لنفسه، لذلك لم يتعرض لها، ثم مات بشر بن البراء بن المعرور مما أكل، فدُعيت زينب، ثم سلّمها لورثة بشر، فقتلوها قصاصا.
وفي رواية عند البيهقي أن زينب أسلمت بعدما اعترفت بالجريمة، وقالت: لقد وضح لي الآن صدقك، وأشهدك وأشهد جميع الحضور أنني على دينك، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبد الله ورسوله. وأشار الزهري وسليمان إلى سبب عدم قتلها في البداية أنها كانت قد أسلمت.

رد منائح الأنصار

أي المهاجرون يعيدون إلى الأنصار بساتينهم:

لما هاجر المسلمون إلى المدينة، ولم يكن معهم شيء، أعانهم الأنصار بالأراضي والبساتين، وقالوا: انتفعوا منها وانفعونا.
ولمّا فتح الله خيبر على رسوله ·، أغناهم الله، فأرجعوا إلى الأنصار ما كانوا قد أخذوا منهم من الأراضي والبساتين.

مسائل وأحكام:

فيما يلي نسرد الأحكام والمسائل التي استنبطها الفقهاء من وقائع وحوادث غزوة خيبر.

(1) القتال في الشهر الحرام:

لقد سبق أن أشرنا إلى أن خروج النبي · لغزوة خيبر في شهر الله المحرم، فدلّ على أن القتال لا يُحرم فيه، أما الآيات والأحاديث التي تدل على منع القتال في الأشهر الحُرُم، فهي منسوخة، وللتوسع في الموضوع يُرجى مراجعة تفسير قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} وقوله تعالى {منها أربعة حُرُم} من سورة التوبة.

(2) تقسيم الأراضي:

سبق أن أشرنا إلى أن النبي · لم يقسّم كافة أراضي خيبر على الغانمين، إنما التي شَمِلَها التقسيم كانت أراضي الشق والنطاة وما جاورتها، فيما احتفظ بأراضي الكتيبة والوطيح والسلالم وما جاورتها لمصالح المسلمين وحاجاتهم، فدلّ ذلك على أنه يجوز للأمير أن يفعل ما يشاء في الأراضي المفتوحة، إن شاء قسّمها على الغانمين، وإن شاء تركها لأهلها، وفرض عليهم الخراج، وبه قال الإمام أبو حنيفة ومالك وأبويوسف ومحمد وسفيان الثوري رحمهم الله تعالى.
وعند الشافعي يجب تقسيم كافة الأراضي المفتوحة مثل الأموال المنقولة على الغانمين، أما عن قصة خيبر فقد يأولونها بأن نصف أراضيها فُتحت عنوة، ونصفها فُتحت صُلحا، فما فُتحت عنوة قسمها النبي · بين الغانمين، وما فتح صلحا لم يقسمها. لكنها جميع الروايات تؤكّد على أن كافة أراضي خيبر فُتحت عنوة وبعد قتال عنيف وشاق، لأن اليهود ما نزلوا من حصونهم إلا بعدما عجزوا عن القتال، وتنازلوا عن ممتلكاتهم وسلطاتهم، رضوا بأن لا يكون لهم حق في أراضيهم وبساتينهم، يعملون فيها كما يعمل الأجير، أقرهم المسلمون عليها ما شاءوا، وأخرجهم منها متى شاءوا، فكانوا مجرد عمّال اُجراء، لا يمتلكون شيئا من الأرض والدار، وقد اشترط النبي · ذلك لمّا صالحهم بأنه سوف يستعيد منهم الأراضي متى شاء. وبناء عليه استعاد منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده كافة الأراضي، وأجلاهم خارج الدولة الإسلامية. دلّ ذلك على أن كافة أراضي خيبر فُتحت عنوة، ومعنى فُتح نصفها صلحا ليس معناها المصطلح عند أهل العلم، بل معناها أنهم في أول أمرهم قاتلوا المسلمين فانهزموا وتراجعوا واستسلموا وطلبوا وقف القتال وإجراء المحادثات، فهذا التوقف عبّر عنه بعض أهل العلم بالصلح، فقالوا نصف خيبر فُتحت عنوة، ونصفها فُتحت صلحا، وللتفصيل يُرجى مراجعة «إزالة الخفاء للشاه ولي الله» و«أحكام القرآن للجصاص» و«شرح معاني الآثار للطحاوي، باب ما يفعل الإمام بالأرض المفتوحة» و«تيسير القاري» وشرح شيخ الإسلام رحمهم الله تعالى.

(3) موانع خيبر:

لقد نهى النبي · يوم خيبر عن أمور وهي (1) لحوم الحُمُر الأهلية (2) بيع الغنائم قبل تقسيمها (3) الثوم (أي عن أكلها بدون طبخها) (4) لحوم الخيل (وفيه اختلاف الفقهاء) وللتفصيل يرجى مراجعة الزرقاني من صفحة 233/2 إلى 339/2.

(4) تحريم المتعة:

ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي · نهى عن متعة النساء يوم خيبر. كما صرّحت بذلك عدد من آيات القرآن الكريم، منها:
{والذين لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون}.
ولاشك في أن مرأة المتعة ليست بزوجة ولا أمة عند الشيعة، فلا نفقة لها ولا شهادة ولا إعلان بها، ولا طلاق ولا لعان ولا ظهار ولا إيلاء ولا عدة ولا ميراث.
(2) وقال الله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} ورد فيها تحديد عدد المنكوحات، فلا يجوز التجاوز على الأربع، لكن المتعة لا تحديد فيها بعدد معين.

(3) ولأن عند انتشار هذه العادة القبيحة لا تبقى حاجة إلى النكاح، لأن الناس لا ينكحون إلا لقضاء شهواتهم عادة، فإن توصلوا إليها بواسطة المتعة فما الحاجة إلى النكاح؟ (السيرة الحلبية وسيرة المصطفى).


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق