8:56 م

سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه

سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه

التعريف
نزلت الآية 217 و218 من سورة البقرة في سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه، فالأولى بنا أن نسرد وقائع هذه المعركة الجهادية المباركة هنا.


***
عند رجوعه · من غزوة سفوان بعث في رجب سنة اثنتين من الهجرة عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي، ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم:
أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة.
وعكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي.
وعتبة بن غزوان بن جابر المازني.
وسعد بن أبي وقاص.
وعامر بن ربيعة العنزي.
وواقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم.
وخالد بن البكير، أخو بني سعد بن ليث.
وسهيل بن بيضاء الفهري.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لعبد الله بن جحش، وهو أمير القوم، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه، ولا يكره أحداً من أصحابه.
ففعل ذلك عبد الله بن جحش، فلما فتح الكتاب وجد فيه:  إذا نظرت في كتابي فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشاً أو عيراً لقريش، وتعلم لنا من أخبارهم . فلما قرأ عبد الله بن جحش الكتاب قال: سمعاً وطاعة. ثم أخبر أصحابه بذلك، وبأنه لا يستكرههم، وأما هو فناهض، ومن أحب الشاهدة فلينهض، ومن كره الموت فليرجع. فمضوا كلهم معه، فسلك الحجاز، حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: بحران أضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يعتقبانه، ونفذ عبد الله في سائرهم حتى ينزل بنخلة، فمرت به عير لقريش تحمل زبيباً وأدماً وتجارة، فيها عمرو بن الحضرمي، واسم الحضرمي: عبد الله، وعثمان ابن عد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد المخزوميان، والحكم ابن كيسان مولى بني المغيرة.
فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن قاتلناهم انتهكنا الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم. ثم اتفقوا على ملاقاتهم، فرمى عبد الله بن واقد التميمي عمرو بن الحضرمي فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت (1) نوفل بن عبد الله، ثم قدموا العير والأسيرين، قد أخرجوا الخمس من ذلك فعزلوه، فذكر أنها أول غنيمة خمست. فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم ما فعلوا في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، قل قتال فيه كبير} الآية، إلى قوله: {حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم الخمس، وقسم الغنيمة، وقبل الفداء في الأسيرين؛ ورجع سعد وعتبة سالمين إلى المدينة.
وهذه أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أسيرين أسرا من المشركين، وأول قتيل قتل منهم.
وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد يوم بئر معونة.
وأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة كافراً.
وفيه قال عبد الله بن جحش:
تعدون قتلا في الحرام عظيمــة   وأعظم منه لو يرى الرشد راشـد
صدودكم عما يقول محمـــــد وكفــــــر بـه والله راءٍ وشاهـد
وإخراجكم من مسجد الله أهلـه  لئلا يرى فـــي البيت لله ساجـد
فانا وان عيرتمـــــــــونا بقتله وارجف بالإســلام بـاغ وحاسـد
سقينا من ابن الحضرمي رماحنـا  بنخلة لما أوقــــد الحرب واقـد
دما وابن عبد الله عثمان بيننــــا   ينازعه غد من القيـــــــد عانـد
إلحاق:
الشيخ الكاندهلوي رحمه الله تعالى اختار وقوع السرية في آخر رجب، وعند العديد من أهل العلم من مفسرين ومؤرخين أن النبي · بعثها في آخر جمادى الآخرة، وكان قد اشتبه عليهم رجب، هل ابتدأ أم لم يبتدئ. والله أعلم بالصواب

10:56 م

{سورة المنافقون مدنية، الآيات 9 إلى 11}


{بسم الله الرحمن الرحيم}

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}.

ملخص معاني الآية:

فيها توجيه المسلمين إلى الحذر والتيقظّ من تولّد أسباب النفاق في قلوبهم.
ومن أسباب تولّد النفاق في القلوب: حب المال والأولاد وتسخير القوى البدنية غير العادية لجمع المال، واتخاذه غاية الحياة.
ومن أفضل أساليب الوقاية من النفاق إنفاق الأموال في كل ما من شأنه ابتغاء وجه الله، وأن يُكثر من ذكر الموت الذي لا يدري متى يفاجئه، وليبادر إلى الإنفاق قبل أن يأتيه الموت.
أما أن يزداد ارتباطه بالمال والأهل، بحيث تفوته الصلوات المكتوبة وغيرها من الواجبات، وأن يتفكر دائما في طول العمر... فهي كلها من ميزات المنافقين. (نسأل الله العافية)

احذروا عادات المنافقين:

قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
حذّر المؤمنين أخلاق المنافقين، أي لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المنافقون، إذ قالوا للشح بأموالهم {لا تنفقوا على من عند رسول الله} (القرطبي).

علامات المنافق:

وفي التفسير المظهري:
«الآيات السابقة كانت في ذمّ المنافقين بألفاظ واضحة، وفي هذه الآية إلى آخرها أشار إلى شرورهم وقبائحهم. فمن علامات المنافق أن يجعل المال والولد همّه الوحيد، بحيث يغفل عن الصلاة والزكاة، وأن يتمنى بطء الموت، ويأمل طول العمر، فلا ينبغي للمسلم أن يتحلّى بشيء من علامات النفاق». (التفسير المظهري)

ما الذي أراد بذكر الله؟

قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تُلهكم أموالهم ولا أولادكم عن ذكر الله}
«لا تُلهكم لا تشغلكم كما شغلت المنافقين، وقد اختلف المفسرون منهم من قال: نزلت في حق المنافقين، ومنهم من قال: في حق المؤمنين». (التفسير الكبير)
لكن ما الذي أراد بذكر الله؟ فيه أقوال:
(1) جملة الفرائض التي كتبها الله تعالى على عباده.
(2) الصلوات الخمسة.
(3) تلاوة القرآن الكريم.
(4) الجهاد في سبيل الله.
(5) الحج والزكاة.
وأقوى الأقوال فيه هو أن المراد منه الطاعة والعبودية، والتي تشمل الدين بأكمله.
«وقال الحسن: جميع الفرائض كأنه قال: عن طاعة الله». (القرطبي)

عبد المال والولد:

وفي تفسير المدارك:
الاشتغال بالمال أي الاهتمام بتنميته وحمايته بحيث يغفل عن الله تعالى، والاشتغال بالأولاد بأن كانوا مبعث سرور وراحة، وأن يحن إليهم ويشفق عليهم، والاهتمام بإصلاح أحوالهم بحيث يغفلون عن الفرائض المكتوبة. (معنى ما ورد في تفسير المدارك)
اللهم ارحمنا، بعض الإخوة اليوم يتحولون إلى عبيد لأولادهم وأموالهم، لا يهمهم غيرهما، تنقضي أيام عمرهم فيهما، فلا يبقى من عمرهم إلا القليل. وبعض الإخوة لا يقدرون على الاستفادة من أموالهم، يحرصون على أن يخلفوا لأولادهم مالا كثيراً، يغفلون عن الفرائض من الصلاة والزكاة والحج والجهاد وغيرها. (نسأل الله العافية)

تفسير سهل:

«الاهتمام الكبير بالدنيا الفانية دليل على خسران الآخرة، فالارتباط بالأدنى تفويت للأعلى، إن من أفضل الأموال والأولاد ما لا تغفله عن ذكر الله وعبادته، وأن لا يهتمّ بها أكثر من اللازم، كي لا يخسر الآخرة قبل الدنيا، التي فقد فيها طمأنينته وراحة قلبه واستقراره. قال الله تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}.
قوله تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم}.. يحتمل أن يكون رداً لقول المنافقين: {لا تنفقوا على من عند رسول الله} ففيها تأكيد على أهمية الإنفاق في سبيل الله، إذ ذاك لا يعود بالنفع إلا إليه، فبادروا إلى الإنفاق قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربي لو لا أخّرتني إلى أجل قريب فأصَّدَّقَ وأكن من الصالحين، لكن الأجل إذا جاء لا يؤخّر، {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}.
وعن ابن عباس أنه كان يحمل هذا التمنّى على يوم القيامة، أي يتمنّى يوم المحشر أن يؤخر إلى أجل قريب فيتصدّق ويكن من الصالحين.
{والله خبير بما تعملون} يعلم بما تعملون إن تمّ تأخيرهم إلى أجل قريب على سبيل الفرض والتقدير، فهو عالم بمواهبكم الشخصية المكنونة، خبير بظواهركم وبواطنكم، فيجازي كل واحد حسب عمله.
تمت سورة المنافقون، ولله الحمد والمنّة، وصلى الله تعالى على خير خلقه سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا كثيرا كثيراً.
30 ربيع الأول 1430هـ
28 مارس 2009م






10:51 م

غزوة مُريسيع أو بني المصطلق

غزوة مُريسيع أو بني المصطلق

2 شعبان يوم الإثنين سنة 5 هـ

غزوة مُريسيع أو بني المصطلق



غزوة المريسيع
غَزْوَةُ الْمُرَيْسِيعِ فِي سَنَةِ خَمْسٍ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ لِهِلَالِ رَمَضَانَ وَغَابَ شَهْرًا إلّا لَيْلَتَيْنِ .
ففي مغازي الواقدي بسنده :
حَدّثَنَا الْوَاقِدِيّ قَالَ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ، وَابْنُ أَبِي سَبْرَةَ وَمُحَمّدُ بْنُ صَالِحٍ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ وَابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ وَهِشَامُ بْنُ سَعْدٍ ، وَمَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ وَأَبُو مَعْشَرٍ وَخَالِدُ بْنُ إلْيَاسَ وَعَائِذُ بْنُ يَحْيَى ، وَعُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْمَخْزُومِيّ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ الْهُذَلِيّ ، وَكُلّ قَدْ حَدّثَنِي بِطَائِفَةٍ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ قَدْ حَدّثَنِي قَالُوا : إنّ بَلْمُصْطَلِقَ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا يَنْزِلُونَ نَاحِيَةَ الْفُرُعِ ، وَهُمْ حُلَفَاءُ فِي بَنِي مُدْلِج ٍ وَكَانَ رَأْسُهُمْ وَسَيّدُهُمْ الْحَارِثَ بْنَ أَبِي ضِرَارٍ ، وَكَانَ قَدْ سَارَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَرَبِ ، فَدَعَاهُمْ إلَى حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَابْتَاعُوا خَيْلًا وَسِلَاحًا وَتَهَيّئُوا لِلْمَسِيرِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَجُعِلَتْ الرّكْبَانُ تَقَدّمَ مِنْ نَاحِيَتِهِمْ فَيُخْبِرُونَ بِمَسِيرِهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَبَعَثَ بُرَيْدَةَ بْنَ الْحَصِيبِ الْأَسْلَمِيّ يَعْلَمُ عِلْمَ ذَلِكَ وَاسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَقُولَ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ حَتّى وَرَدَ [ ص 405 ] عَلَيْهِمْ مَاءَهُمْ فَوَجَدَ قَوْمًا مَغْرُورِينَ قَدْ تَأَلّبُوا وَجَمَعُوا الْجُمُوعَ فَقَالُوا : مَنْ الرّجُلُ ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْكُمْ قَدِمْت لِمَا بَلَغَنِي عَنْ جَمْعِكُمْ لِهَذَا الرّجُلِ فَأَسِيرُ فِي قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي فَتَكُونُ يَدُنَا وَاحِدَةً حَتّى نَسْتَأْصِلَهُ . قَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ : فَنَحْنُ عَلَى ذَلِكَ فَعَجّلْ عَلَيْنَا .
قَالَ بُرَيْدَةُ : أَرْكَبُ الْآنَ فَآتِيكُمْ بِجَمْعٍ كَثِيفٍ مِنْ قَوْمِي وَمَنْ أَطَاعَنِي . فَسَرّوا بِذَلِكَ مِنْهُ وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَ الْقَوْمِ فَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَ عَدُوّهِمْ فَأَسْرَعَ النّاسُ لِلْخُرُوجِ وَقَادُوا الْخُيُولَ وَهِيَ ثَلَاثُونَ فَرَسًا ، فِي الْمُهَاجِرِينَ مِنْهَا عَشَرَةٌ وَفِي الْأَنْصَارِ عِشْرُونَ وَلِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَسَانِ.
قَالُوا : وَخَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ لَمْ يَخْرُجُوا فِي غَزَاةٍ قَطّ مِثْلِهَا ، لَيْسَ بِهِمْ رَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ إلّا أَنْ يُصِيبُوا مِنْ عَرَضِ الدّنْيَا ، وَقَرُبَ عَلَيْهِمْ السّفَرُ .
هجوم مفاجئ:
 [ ص 407 ] ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمُرَيْسِيعِ وَهُوَ الْمَاءُ فَنَزَلَهُ وَضُرِبَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُبّةٌ مِنْ أَدَمٍ وَمَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ عَائِشَةُ وَأُمّ سَلَمَةَ . وَقَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى الْمَاءِ وَأَعَدّوا وَتَهَيّئُوا لِلْقِتَالِ فَصَفّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ وَدَفَعَ رَايَةَ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَبِي بَكْر ٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَرَايَةَ الْأَنْصَارِ إلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَيُقَالُ كَانَ مَعَ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ .
ثُمّ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَنَادَى فِي النّاسِ قُولُوا لَا إلَهَ إلّا اللّهُ تَمْنَعُوا بِهَا أَنَفْسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ . فَفَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَبَوْا فَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَمَى رَجُلٌ مِنْهُمْ بِسَهْمٍ فَرَمَى الْمُسْلِمُونَ سَاعَةً بِالنّبْلِ ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْمِلُوا ، فَحَمَلُوا حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَمَا أَفْلَتَ مِنْهُمْ إنْسَانٌ وَقُتِلَ عَشَرَةٌ مِنْهُمْ وَأُسِرَ سَائِرُهُمْ .
وَسَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ وَالذّرّيّةَ [ وَغُنِمَتْ ] النّعَمُ وَالشّاءُ وَمَا قُتِلَ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلّا رَجُلٌ وَاحِدٌ . وَكَانَ أَبُو قَتَادَةَ يُحَدّثُ قَالَ حَمَلَ لِوَاءَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَئِذٍ صَفْوَانُ ذُو الشّقْرِ فَلَمْ تَكُنْ لِي بِأُهْبَةٍ حَتّى شَدَدْت عَلَيْهِ وَكَانَ الْفَتْحُ.
أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها:
وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الْأَبْيَضِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّتِهِ وَهِيَ مَوْلَاةُ جُوَيْرِيَةَ قَالَتْ سَمِعْت جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ تَقُولُ [ ص 409 ] أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَنَحْنُ عَلَى الْمُرَيْسِيعِ فَأَسْمَعُ أَبِي يَقُولُ أَتَانَا مَا لَا قِبَلَ لَنَا بِهِ . قَالَتْ فَكُنْت أَرَى مِنْ النّاسِ وَالْخَيْلِ مَا لَا أَصِفُ مِنْ الْكَثْرَةِ فَلَمّا أَنْ أَسْلَمْت وَتَزَوّجَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَجَعْنَا جَعَلْت أَنْظُرُ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسُوا كَمَا كُنْت أَرَى ، فَعَلِمْت أَنّهُ رُعْبٌ مِنْ اللّهِ تَعَالَى يُلْقِيهِ فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ.
فَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ يَقُولُ لَقَدْ كُنّا نَرَى رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ مَا كُنّا نَرَاهُمْ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ .
قَالُوا : فَاقْتُسِمَ السّبْيُ وَفُرّقَ فَصَارَ فِي أَيْدِي الرّجَالِ وَقُسِمَتْ الرّثّةُ وَقُسِمَ النّعَمُ وَالشّاءُ وَعُدِلَتْ الْجَزُورُ بِعَشْرٍ مِنْ الْغَنَمِ وَبِيعَتْ الرّثّةُ فِيمَنْ يُرِيدُ وَأُسْهِمَ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِصَاحِبِهِ سَهْمٌ وَلِلرّاجِلِ سَهْمٌ .
وَكَانَتْ الْإِبِلُ أَلْفَيْ بَعِيرٍ وَخَمْسَةَ آلَافِ شَاةٍ وَكَانَ السّبْيُ مِائَتَيْ أَهْلِ بَيْتٍ . فَصَارَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ وَابْنِ عَمّ [ ص 411 ] لَهُ فَكَاتَبَهَا عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ ذَهَبٍ .
فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ثَوْبَانَ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ كَانَتْ جُوَيْرِيَةُ جَارِيَةً حُلْوَةً لَا يَكَادُ يَرَاهَا أَحَدٌ إلّا ذَهَبَتْ بِنَفْسِهِ فَبَيْنَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدِي وَنَحْنُ عَلَى الْمَاءِ إذْ دَخَلَتْ عَلَيْهِ جُوَيْرِيَةُ تَسْأَلُهُ فِي كِتَابَتِهَا . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا فَكَرِهْت دُخُولَهَا عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَرَفْت أَنّهُ سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ الّذِي رَأَيْت ، فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّك رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيّدِ قَوْمِهِ أَصَابَنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا قَدْ عَلِمْت ، وَوَقَعْت فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ وَابْنِ عَمّ لَهُ فَتَخَلّصَنِي مِنْ ابْنِ عَمّهِ بِنَخَلَاتٍ لَهُ بِالْمَدِينَةِ ، فَكَاتَبَنِي ثَابِتٌ عَلَى مَا لَا طَاقَةَ لِي بِهِ وَلَا يَدَانِ وَمَا أَكْرَهَنِي عَلَى ذَلِكَ إلّا أَنّي رَجَوْتُك صَلّى اللّهُ عَلَيْك فَأَعِنّي فِي مُكَاتَبَتِي فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَتْ مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أُؤَدّي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوّجُك . قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ فَعَلْت فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى ثَابِتٍ فَطَلَبَهَا مِنْهُ فَقَالَ ثَابِتٌ هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ بِأَبِي وَأُمّي . فَأَدّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كِتَابَتِهَا ، وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا . وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النّاسِ وَرِجَالُ بَنِي الْمُصْطَلِق ِ قَدْ اُقْتُسِمُوا وَمُلِكُوا وَوُطِئَ نِسَاؤُهُمْ فَقَالُوا : أَصْهَارُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعْتَقُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ السّبْيِ . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : فَأَعْتَقَ مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ بِتَزْوِيجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّاهَا ، فَلَا أَعْلَمُ امْرَأَةً أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا.
فَحَدّثَنِي حِزَامُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ [ ص 412 ] قَالَتْ جُوَيْرِيَةُ : رَأَيْت قَبْلَ قُدُومِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ كَأَنّ الْقَمَرَ يَسِيرُ مِنْ يَثْرِبَ حَتّى وَقَعَ فِي حِجْرِي ، فَكَرِهْت أَنْ أُخْبِرَهَا أَحَدًا مِنْ النّاسِ حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا سُبِينَا رَجَوْت الرّؤْيَا ، فَلَمّا أَعْتَقَنِي وَتَزَوّجَنِي وَاَللّهِ مَا كَلّمْته فِي قَوْمِي حَتّى كَانَ الْمُسْلِمُونَ هُمْ الّذِينَ أَرْسَلُوهُمْ وَمَا شَعَرْت إلّا بِجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ عَمّي تُخْبِرُنِي الْخَبَرَ ، فَحَمِدْت اللّهَ عَزّ وَجَل.

حب الصحابة لرسول الله   ·:

وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ كُلّ أَسِيرٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، وَيُقَالُ جَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَ أَرْبَعِينَ مِنْ قَوْمِهَا .
فَحَدّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيّةَ قَالَ كَانَ السّبْيُ مِنْهُمْ مَنْ مَنّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِغَيْرِ فِدَاءٍ وَمِنْهُمْ مَنْ اُفْتُدِيَ وَذَلِك بَعْدَ مَا صَارَ السّبْيُ فِي أَيْدِي الرّجَالِ فَافْتُدِيَتْ الْمَرْأَةُ وَالذّرّيّةُ بِسِتّ فَرَائِضَ . وَكَانُوا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ بِبَعْضِ السّبْيِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ أَهْلُوهُمْ فَافْتَدَوْهُمْ فَلَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِق ِ إلّا رَجَعَتْ إلَى قَوْمِهَا . . وَهَذَا الثّبْتُ .
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي الْأَبْيَضِ عَنْ جَدّتِهِ وَهِيَ مَوْلَاةُ جُوَيْرِيَةَ ، كَانَ عَالِمًا بِحَدِيثِهِمْ قَالَتْ سَمِعْت جُوَيْرِيَةَ تَقُولُ افْتَدَانِي أَبِي مِنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ بِمَا اُفْتُدِيَ بِهِ امْرَأَةٌ مِنْ السّبْيِ ثُمّ خَطَبَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِي فَأَنْكَحَنِي . قَالَتْ وَكَانَ اسْمُهَا بَرّ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جُوَيْرِيَةَ ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يُقَالَ « خَرَجَ مِنْ بَيْتِ بَرّةَ »
قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ : وَأَثْبَتُ ( مِنْ ) هَذَا عِنْدَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَضَى عَنْهَا كِتَابَتَهَا وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ يَقُولُ فَقَدِمَ عَلَيْنَا وُفُودُهُمْ فَافْتَدَوْا الذّرّيّةَ وَالنّسَاءَ وَرَجَعُوا بِهِنّ إلَى بِلَادِهِمْ وَخُيّرَ مَنْ خُيّرَ مِنْهُنّ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَ مَنْ صَارَتْ فِي سَهْمِهِ فَأَبَيْنَ إلّا الرّجُوعَ .

خبث المنافقين:

ذِكْرُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ ابْنِ أُبَيّ قَالُوا [ ص 415 ] فَبَيْنَا الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَاءِ الْمُرَيْسِيعِ قَدْ انْقَطَعَتْ الْحَرْبُ وَهُوَ مَاءٌ ظَنُونٌ . إنّمَا يَخْرُجُ فِي الدّلْوِ نِصْفُهُ أَقْبَلَ سِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ - وَهُوَ حَلِيفٌ فِي بَنِي سَالِمٍ - وَمَعَهُ فَتَيَانِ مِنْ بَنِي سَالِمٍ يَسْتَقُونَ فَيَجِدُونَ عَلَى الْمَاءِ جَمْعًا مِنْ الْعَسْكَرِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَكَانَ جَهْجَا بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيّ أَجِيرًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَدْلَى سِنَانٌ وَأَدْلَى جَهْجَا دَلْوَهُ وَكَانَ جَهْجَا أَقْرَبَ السّقَاءِ إلَى سِنَانِ بْنِ وَبَرٍ فَالْتَبَسَتْ دَلْوُ سِنَانٍ وَدَلْوُ جَهْجَا ، فَخَرَجَتْ إحْدَى الدّلْوَيْنِ وَهِيَ دَلْوُ سِنَانِ بْنِ وَبَرٍ . قَالَ سِنَانٌ فَقُلْت : دَلْوِي . فَقَالَ جَهْجَا : وَاَللّهِ مَا هِيَ إلّا دَلْوِي . فَتَنَازَعَا إلَى أَنْ رَفَعَ جَهْجَا يَدَهُ فَضَرَبَ سِنَانًا فَسَالَ الدّمُ فَنَادَى : يَا آلَ خَزْرَجٍ وَثَارَتْ الرّجَالُ . قَالَ سِنَانٌ وَأَعْجَزَنِي جَهْجَا هَرَبًا وَأَعْجَزَ أَصْحَابِي ، وَجَعَلَ يُنَادِي فِي الْعَسْكَرِ يَا آلَ قُرَيْشٍ يَا آلَ كِنَانَةَ فَأَقْبَلَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ سِرَاعًا . قَالَ سِنَانٌ فَلَمّا رَأَيْت مَا رَأَيْت نَادَيْت بِالْأَنْصَارِ . قَالَ فَأَقْبَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَشَهَرُوا السّلَاحَ حَتّى خَشِيت أَنْ تَكُونَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ حَتّى جَاءَنِي نَاسٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُونَ اُتْرُكْ حَقّك
[ قَالَ سِنَانٌ ] : وَإِذَا ضَرَبْته لَمْ يَضْرُرْنِي شَيْئًا . قَالَ سِنَانٌ فَجَعَلْت لَا أَسْتَطِيعُ أَفْتَاتُ عَلَى حُلَفَائِي بِالْعَفْوِ لِكَلَامِ الْمُهَاجِرِينَ ، وَقَوْمِي يَأْبَوْنَ أَنْ [ ص 416 ] أَعْفُو إلّا بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوْ أَقْتَصّ مِنْ جَهْجَا . ثُمّ إنّ الْمُهَاجِرِينَ كَلّمُوا حُلَفَائِي ، فَكَلّمُوا عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ وَنَاسًا مِنْ حُلَفَائِي ، فَكَلّمَنِي حُلَفَائِي فَتَرَكْت ذَلِكَ وَلَمْ أَرْفَعْهُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَكَانَ ابْنُ أُبَيّ جَالِسًا فِي عَشَرَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ ابْنُ أُبَيّ ، وَمَالِكٌ وَدَاعِسٌ وَسُوَيْدٌ ، وَأَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلَ - وَفِي الْقَوْمِ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ أَوْ قَدْ بَلَغَ - فَبَلَغَهُ صِيَاحُ جَهْجَا : يَا آلَ قُرَيْشٍ فَغَضِبَ ابْنُ أُبَيّ غَضَبًا شَدِيدًا ، وَكَانَ مِمّا ظَهَرَ مِنْ كَلَامِهِ وَسَمِعَ مِنْهُ أَنْ قَالَ وَاَللّهِ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ مَذَلّةً وَاَللّهِ إنْ كُنْت لَكَارِهًا لِوَجْهِي هَذَا وَلَكِنْ قَوْمِي غَلَبُونِي قَدْ فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بَلَدِنَا ، وَأَنْكَرُوا مِنّتَنَا . وَاَللّهِ مَا صِرْنَا وَجَلَابِيبُ قُرَيْشٍ هَذِهِ إلّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ « سَمّنْ كَلْبَك يَأْكُلْك » . وَاَللّهِ لَقَدْ ظَنَنْت أَنّي سَأَمُوتُ قَبْلَ أَنْ أَسْمَعَ هَاتِفًا يَهْتِفُ بِمَا هَتَفَ بِهِ جَهْجَا وَأَنَا حَاضِرٌ لَا يَكُونُ لِذَلِكَ مِنّي غِيَرٌ . وَاَللّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَة ِ لَيُخْرِجَن الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ فَنَزَلُوا مَنَازِلَكُمْ وَآسَيْتُمُوهُمْ فِي أَمْوَالِكُمْ حَتّى اسْتَغْنَوْا أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ ثُمّ لَمْ يَرْضَوْا بِمَا فَعَلْتُمْ حَتّى جَعَلْتُمْ أَنَفْسَكُمْ أَغْرَاضًا لِلْمَنَايَا ، فَقَتَلْتُمْ دُونَهُ فَأَيْتَمْتُمْ [ ص 417 ] أَوْلَادَكُمْ وَقَلَلْتُمْ وَكَثُرُوا . فَقَامَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ كُلّهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَجِدُ عِنْدَهُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - أَبَا بَكْرٍ ، وَعُثْمَانَ ، وَسَعْدًا ، وَمُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَأَوْسَ بْنَ خَوْلِيّ وَعَبّادَ بْنَ بِشْرٍ - فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ . فَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَبَرَهُ وَتَغَيّرَ وَجْهَهُ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا غُلَامُ لَعَلّك غَضِبْت عَلَيْهِ قَالَ لَا وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ . قَالَ لَعَلّهُ أَخْطَأَ سَمْعُك قَالَ لَا يَا نَبِيّ اللّهِ قَالَ لَعَلّهُ شُبّهَ عَلَيْك قَالَ لَا وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْته مِنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ وَشَاعَ فِي الْعَسْكَرِ مَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ ، وَلَيْسَ لِلنّاسِ حَدِيثٌ إلّا مَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ ، وَجَعَلَ الرّهْطُ مِنْ الْأَنْصَارِ يُؤَنّبُونَ الْغُلَامَ وَيَقُولُونَ عَمَدْت إلَى سَيّدِ قَوْمِك تَقُولُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ وَقَدْ ظَلَمْت وَقَطَعْت الرّحِمَ فَقَالَ زَيْدٌ وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت مِنْهُ قَالَ وَوَاللّهِ مَا كَانَ فِي الْخَزْرَجِ رَجُلٌ وَاحِدٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ، وَاَللّهِ لَوْ سَمِعْت هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ أَبِي لَنَقَلْتهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّي لَأَرْجُو أَنْ يُنْزِلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيّهِ حَتّى يَعْلَمُوا أَنَا كَاذِبٌ أَمْ غَيْرِي ، أَوْ يَرَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَصْدِيقَ قَوْلِي . وَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ اللّهُمّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيّك مَا يُصَدّقُ حَدِيثِي فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ مُرْ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَأْتِك بِرَأْسِهِ . فَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَيُقَالُ قَالَ قُلْ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ يَأْتِك بِرَأْسِهِ . فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْرَضَ عَنْهُ لَا يَتَحَدّثُ النّاسُ أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ وَقَامَ النّفَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ الّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَدّهُ عَلَى الْغُلَامِ فَجَاءُوا إلَى ابْنِ أُبَيّ فَأَخْبَرُوهُ وَقَالَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ يَا أَبَا الْحُبَابِ إنْ كُنْت قُلْته [ ص 418 ] فَأَخْبِرْ النّبِيّ يَسْتَغْفِرْ لَك ، وَلَا تَجْحَدْهُ فَيَنْزِلَ مَا يُكَذّبُك . وَإِنْ كُنْت لَمْ تَقُلْهُ فَأْتِ رَسُولَ اللّهِ فَاعْتَذِرْ إلَيْهِ وَاحْلِفْ لِرَسُولِ اللّهِ مَا قُلْته . فَحَلَفَ بِاَللّهِ الْعَظِيمِ مَا قَالَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا . ثُمّ إنّ ابْنَ أُبَيّ أَتَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا ابْنَ أُبَيّ ، إنْ كَانَتْ سَلَفَتْ مِنْك مَقَالَةٌ فَتُبْ . فَجَعَلَ يَحْلِفُ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ زَيْدٌ وَلَا تَكَلّمْت بِهِ وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا ، فَكَانَ يُظَنّ أَنّهُ قَدْ صَدَقَ وَكَانَ يُظَنّ بِهِ سُوءُ الظّنّ .
 [ ص 419 ] وَيُقَالُ لَمْ يَشْعُرْ أَهْلُ الْعَسْكَرِ إلّا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ طَلَعَ عَلَى رَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ وَكَانُوا فِي حَرّ شَدِيدٍ وَكَانَ لَا يَرُوحُ حَتّى يُبْرِدَ إلّا أَنّهُ لَمّا جَاءَهُ خَبَرُ ابْنِ أُبَيّ رَحَلَ فِي تِلْكَ السّاعَةِ . فَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْك أَيّهَا النّبِيّ وَرَحْمَةُ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْك السّلَامُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ رَحَلْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرْحَلُ فِيهَا وَيُقَالُ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ - قَالَ ابْنُ وَاقِدٍ : وَهُوَ أَثْبَتُ عِنْدَنَا - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ خَرَجْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرُوحُ فِيهَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَلَمْ يَبْلُغْكُمْ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ ؟ قَالَ أَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ ابْنُ أُبَيّ ، زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ قَالَ فَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللّهِ تُخْرِجُهُ إنْ شِئْت ، فَهُوَ الْأَذَلّ وَأَنْتَ الْأَعَزّ ، وَالْعِزّةُ لِلّهِ وَلَك وَلِلْمُؤْمِنِينَ . ثُمّ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَ اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيُنَظّمُونَ لَهُ الْخَرَزَ مَا بَقِيَتْ عَلَيْهِمْ إلّا خَرَزَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ يُوشَعَ الْيَهُودِيّ قَدْ أَرّبَ بِهِمْ فِيهَا لِمَعْرِفَتِهِ بِحَاجَتِهِمْ إلَيْهَا لِيُتَوّجُوهُ فَجَاءَ اللّهُ بِك عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَمَا يَرَى إلّا قَدْ سَلَبَتْهُ مُلْكَهُ .
قَالَ فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسِيرُ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ يُعَارِضُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرَاحِلَتِهِ يُرِيهِ وَجْهَهُ فِي الْمَسِيرِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْتَحِثّ رَاحِلَتَهُ فَهُوَ مُغِذّ فِي السّيْرِ إذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ . قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَأْخُذُهُ الْبُرَحَاءُ وَيَعْرَقُ جَبِينُهُ وَتَثْقُلُ يَدَا رَاحِلَتِهِ حَتّى مَا كَادَ يَنْقُلُهَا ، عَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُوحَى إلَيْهِ وَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ يَنْزِلُ [ ص 420 ] عَلَيْهِ تَصْدِيقُ خَبَرِي . قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَسُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَ بِأُذُنِي وَأَنَا عَلَى رَاحِلَتِي حَتّى ارْتَفَعْت مِنْ مَقْعَدِي وَيَرْفَعُهَا إلَى السّمَاءِ وَهُوَ يَقُولُ وَفَتْ أُذُنُك يَا غُلَامُ وَصَدّقَ اللّهُ حَدِيثَك وَنَزَلَ فِي ابْنِ أُبَيّ السّورَةُ مِنْ أَوّلِهَا إلَى آخِرِهَا وَحْدَهُ إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ.
فَحَدّثَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ الْهُرَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ ، قَالَ سَمِعْت عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ لِابْنِ أُبَيّ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ إِيتِ رَسُولَ اللّهِ يَسْتَغْفِرْ لَك . قَالَ فَرَأَيْته يَلْوِي رَأْسَهُ مُعْرِضًا . يَقُولُ عُبَادَةُ أَمَا وَاَللّهِ لَيُنْزِلَن فِي لَيّ رَأْسِك قُرْآنٌ يُصَلّى بِهِ .
وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ الظّفَرِيّ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، قَالَ مَرّ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ عَشِيّةَ رَاحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُرَيْسِيعِ ، وَقَدْ نَزَلَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ فَلَمْ يُسَلّمْ عَلَيْهِ ثُمّ مَرّ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ فَلَمْ يُسَلّمْ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ أُبَيّ : إنّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ تَمَالَأْتُمَا عَلَيْهِ . فَرَجَعَا إلَيْهِ فَأَنّبَاهُ وَبَكَتَاهُ بِمَا صَنَعَ وَبِمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ إكْذَابًا لِحَدِيثِهِ وَجَعَلَ أَوْسُ بْنُ خَوْلِيّ يَقُولُ لَا أَكَذِبُ عَنْك أَبَدًا حَتّى أَعْلَمَ أَنْ قَدْ تَرَكْت مَا أَنْتَ عَلَيْهِ وَتُبْت إلَى اللّهِ إنّا أَقْبَلْنَا عَلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ نَلُومُهُ وَنَقُولُ لَهُ « كَذَبْت عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِك » حَتّى نَزَلَ الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ حَدِيثِ زَيْدٍ وَإِكْذَابِ حَدِيثِك . وَجَعَلَ ابْنُ أُبَيّ يَقُولُ لَا أَعُودُ أَبَدًا وَبَلَغَ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ مَقَالَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ « مُرْ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ يَأْتِك بِرَأْسِهِ » فَجَاءَ إلَى النّبِيّ [ ص 421 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ كُنْت تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ أَبِي فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ فَمُرْنِي ، فَوَاَللّهِ لِأَحْمِلَن إلَيْك رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِك هَذَا . وَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ فِيهَا رَجُلٌ أَبَرّ بِوَالِدٍ مِنّي ، وَمَا أَكَلَ طَعَامًا مُنْذُ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدّهْرِ وَلَا يَشْرَبُ شَرَابًا إلّا بِيَدِي ، وَإِنّي لَأَخْشَى يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ تَأْمُرَ غَيْرِي فَيَقْتُلَهُ فَلَا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى قَاتِلِ أَبِي يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلُهُ فَأَدْخُلُ النّارَ وَعَفْوُك أَفْضَلُ وَمَنّك أَعْظَمُ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا عَبْدَ اللّهِ مَا أَرَدْت قَتْلَهُ وَمَا أَمَرْت بِهِ وَلَنُحْسِنَنّ صُحْبَتَهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا . فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ أَبِي كَانَتْ هَذِهِ الْبَحْرَةُ قَدْ اتّسَقُوا عَلَيْهِ لِيُتَوّجُوهُ عَلَيْهِمْ فَجَاءَ اللّهُ بِك ، فَوَضَعَهُ اللّهُ وَرَفَعَنَا بِك ، وَمَعَهُ قَوْمٌ يُطِيفُونَ بِهِ وَيَذْكُرُونَ أُمُورًا قَدْ غَلَبَ اللّهُ عَلَيْهَا . قَالَ فَلَمّا انْصَرَفَ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَرَفَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَرَكَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِقَتْلِهِ، قال أبيات..

فائدة مهمة:

لمّا تنازعت الأنصار والمهاجرون قال النبي ·:
«دعوها فإنها منتنة».
فدلَّ على أن الكلام الطيب طيب الرائحة وأن القبيح منه مُنتن، يشعر بطيبها ونتنها أنبياء الله تعالى وورثتهم شعورا ظاهريا حسّياً.
وعن جابر رضي الله عنه كنا مع النبي · فارتقت ريح منتنة، فقال رسول الله ·: أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين. رواه أحمد وابن أبي الدنيا، ورواة أحمد ثقات. (الترغيب والترهيب للمنذري 300/3 طبع مصر)
دل الحديث على أن النبي · ومن كان معه من أصحابه وجدوا ريحا منتنة، أما سببها فلم يعرفوه إلا بعد إخبار النبي ·.
وأخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى، باب ما وقع في غزوة بني المصطلق من الآيات عن أبي نعيم بلفظ:
«عن جابر قال كنا مع رسول الله · في سفر فهاجت ريح منتنة فقال النبي ·: إن أناساً من المنافقين اغتابوا أناسا من المؤمنين، فلذلك هاجت هذه الريح».
ودل ما ذكره السيوطي أن قصة الريح المنتنة وقعت في غزوة بني المصطلق.
كما سرد الواقدي الحديث الآتي بسنده:
حَدّثَنِي خَارِجَةُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ كَانَتْ الرّيحُ يَوْمَئِذٍ أَشَدّ مَا كَانَتْ قَطّ إلَى أَنْ زَالَتْ الشّمْسُ ثُمّ سَكَنَتْ آخِرَ النّهَارِ . قَالَ جَابِرٌ فَسَأَلْت حِينَ قَدِمْت قَبْلَ أَنْ أَدْخُلَ بَيْتِي : مَنْ مَاتَ ؟ فَقَالَ زَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ التّابُوتِ . وَذَكَرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ أَنّهُمْ وَجَدُوا مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ شِدّةِ الرّيحِ حَتّى دُفِنَ عَدُوّ اللّهِ فَسَكَنَتْ الرّيحُ . (مغازي الواقدي)
لعل العفونة كانت بسبب روحه الخبيثة التي انتشرت في أجواء الصحراء، ووجدها النبي · وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين.
والواجب على الناس السمع والطاعة لتلك النفوس الذكية الطاهرة التي كشف الله عليها عفونة الكفر، ومن لا يميز بين رائحة الورد الذكية ورائحة البول النتنة لزكامه وبلادته، كيف يجد رائحة الكلمات الطبية الذكية والكلمات الخبيثة العفنة؟
ففي جامع الترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله · قال:
«إذا كذب العبد تباعد عنه الملك ميلا من نتن ما جاء به». (الترمذي 2/19)
وكان محمد بن الواسع يقول لأصحابه: نحن قوم غمرتنا الذنوب، وإلا لانفضتم من حولي لنتن ذنوبي.
والغريب في هذه القصة إخلاص عبد الله بن عبد الله بن اُبي بن سلول، فقد كان مؤمنا صادق الإيمان وممن يُضحّي بالغالي والنفيس على رسول الله ·، فكان عبد الله بكل معنى الكلمة، ولمّا قال أبوه: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، أخذه وقام ثم قال: لن تعود إلى المدينة حتى تعترف أنك الأذل، وأن رسول الله · الأعز، ففعل، فخلى عنه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
هذه القصة ذكرها ابن إسحاق والطبري. (فتح الباري، سورة المنافقون)

تأسيس السياسة الإسلامية على أسس من الأخوة الإسلامية بعيداً عن فوارق الجنس واللون واللسان والمواطن والأجنبي..

إن ما وقع يوم غزوة بني المصطلق من النزاع بين المهاجر والأنصاري ودعوة كل واحد منهما أصحابه من المهاجرين والأنصار كان شكلا من أشكال أصنام الجاهلية التي قام النبي · بهدمها، وآخى بين المسلمين بغضّ النظر عن لونهم وجنسهم ولسانهم وأرضهم، وأسَّسَ دعائم الأخوة الإسلامية العامة. وللشيطان أساليبه المعروفة لإغواء البشر وإهلاكهم من الجنس واللون والعرق، التي يوقع الناس فيها، فلا يساعدون إلا استناداً إليها، حتى إن معايير الإسلام بشأن النصر والمؤازرة تلاشت من أذهانهم. فلا أساس للتعاون والتعاضد إلا القومية والعشائرية، وهكذا يُوقع بينهم العداوة والبغضاء التي تجلب الويلات من التناحر والتشرد. وهذا ما وقع في هذه القصة التي وقعت يوم غزوة بني المصطلق، حتى تدخّلَ النبي · وقضى على هذه الفتنة، وأكّد لهم أنها منتنة، وأن عليهم أن ينبذوها ويحذروها، ثم أرجعهم إلى أصل التعاون القرآني الذي جاء فيه: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}.
فيها إشارة إلى أصل من أصول التعاون والتآزر بين المسلمين، وهو أن التعاون ليس إلا لمن تمسك بالحق والعدل والبر والتقوى، رغم اختلافه معكم في النسب والعرق واللون والجنس، ولا تتعاونوا مع من كان على الإثم والمعصية، ولو كان أخاكم أو ابنكم، هذا هو قانون التعاون الإسلامي الموافق للعقل والعدل الذي أرشد الإسلام إليه، وحرص النبي · على تطبيقه طيلة حياته، وأوصى المسلمين بالعمل به. وقال يوم فتح مكة :  «ألا إن كل مأثرة في الجاهلية ودم ومال تحت قدمي هاتين». وهكذا تلاشت فوارق الجنس واللون والعرق والعروبة والعُجمة، وتقرر مرجع التعاون والتعاضد : البر والتقوى لا غير، وعلى الجميع اتباعه.
وهذه القصة أرشدتنا إلى أن أعداء الإسلام منذ القدم يسعون إلى تفريق كلمة المسلمين بإثارة القومية والوطنية، كلما سنحت لهم الفرصة استخدموها لإشباع غرائزهم.
وللأسف الشديد،، إن المسلمين تناسوا ذلك الدرس منذ أمد بعيد، والأعداء لم يألو جهدا في استخدام حيلتهم القديمة لتفريق وحدة المسلمين، وظلوا يتناحرون ساعين وراء حطام الدنيا، وجعلوا الدين وضوابطه الأساسية وراء ظهورهم، وافترقت كلمتهم التي كانوا ينطلقون منها لمحاربة الكفر والإلحاد والزندقة. وهذا ما نلمسه بين العرب من مصري وشامي وحجازي ويماني لم تتوحد بلادهم، ناهيك عن العجم، ففي ديار الهند والباكستان البنجابيون والبنغاليون والسنديون والهنديون والبشتون والبلوش باتوا يئنّون تحت وطأة التنافر والتحاسد والتباغض لاختلاف العرق واللغة، رغم اجتماعهم على دين واحد ورسول واحد وكتاب واحد، فإلى الله المشتكي.
بات العدو يعبث بمصيرنا لمّا وجدنا متناحرين، وتغلب علينا في الميادين كلها، نعاني من تبعية فكرية في كافة الأقطار، ونلجأ إليه لحماية أنفسنا. يا حبذا لو عاد المسلمون إلى الضوابط القرآنية والتعليمات النبوية، وسعوا إلى تقوية أواصر الأخوة الإسلامية بدلا من التبعية والهامشية، وحطّموا أصنام القومية والوطنية والعرقية واللسانية والإقليمية، لشاهدوا نزول النصر الرباني بعيون مكشوفة.

ثبات الصحابة على الضوابط الإسلامية ومكانتهم العالية:

هذه القصة أفادت أن البعض من المسلمين إن كانوا قد رفعوا شعارات جاهلية لغلبة الشيطان والنفس لبعض الوقت، فإن الإيمان قد استقر في جذور قلوبهم، لذلك بادروا إلى الاستغفار والتوبة عقب تلقي إنذار طفيف، وقد غرس النبي · حبه في نفوسهم وقلوبهم بحيث لا يقيمون للقومية والقبلية وزنا، يصدقه ما قاله زيد بن الأرقم من الخزرج الذي كان يُكِنُّ لسيده عبد الله بن اُبي بن سلول كل تقدير وإجلال بعدما سمع منه بشأن المؤمنين ورسول الله · ما أغاظه حتى رد عليه ردا قويا، ثم جاء إلى النبي · وأبلغه بما سمع. أما لو كانت الوطنية والقومية التي نعايشها اليوم، لما ذهب إلى رسول الله · ليخبره عما تكلم به زعيم قومه.
أما طريقة معالجة ابنه عبد الله بن عبد الله اُبي بن سلول للقضية فأوضحت أن حبه لم يكن إلا لله ورسوله، جاء إلى النبي · لمّا سمع أباه يتحدث بما لا يتماشى مع ادعائه الإيمان، وقال: مُرني آتك برأسه، فلم يأذن له، فلمّا دنا أبوه من المدينة أناخ راحلته وأعاق طريقه إلى المدينة حتى يُقرّ أنه الأذل، وأن النبي · أعز وأكرم، ودام في إعاقة طريقه حتى أذن له النبي · بالدخول في المدينة.
ثم إن معارك بدر واُحد والأحزاب حطّمت ما تبقى من أصنام القومية والوطنية، وبرهنت على أن المؤمنين أخوة، بغض النظر عن فارق اللون والجنس والعرق والدم واللغة، وأن العدو من لا يؤمن بالله، ولو كان من ذوي قرابته، أخوه أو أبوه.
(صحيح البخاري، سيرة المصطفى، معارف القرآن)








10:08 م

غزوة بني النضير


غزوة بني النضير

في ربيع الأول سنة 4 من الهجرة

متى كانت غزوة بني النضير:

بنو النضير عشيرة يهودية تسكن بالمدينة، وقيل: هم قبيلة يهودية موطنها خيبر، وقريتها زهرة. وقد وقعت غزوة بني النضير في ربيع الأول سنة أربع من الهجرة، وقيل: وقعت قبل غزوة اُحد، وهو قول الإمام البخاري، كما قال الراوي. وقال ابن كثير: والصحيح أنها وقعت بعد غزوة اُحد، كما قال ابن إسحاق وغيره، وهو إمام علم الغزوات.

سبب غزوة بني النضير:

أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ حَتّى كَانَ بِقَنَاةٍ فَلَقِيَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ فَنَسَبَهُمَا فَانْتَسَبَا ، فَقَابَلَهُمَا حَتّى إذَا نَامَا وَثَبَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا . ثُمّ خَرَجَ حَتّى وَرَدَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَاعَتِهِ فِي قَدْرِ حَلْبِ شَاةٍ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِئْسَ مَا صَنَعْت ، قَدْ كَانَ لَهُمَا مِنّا أَمَانٌ وَعَهْدٌ فَقَالَ مَا شَعَرْت ، كُنْت أَرَاهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا ، وَكَانَ قَوْمُهُمَا قَدْ نَالُوا مِنّا مَا نَالُوا مِنْ الْغَدْرِ بِنَا . وَجَاءَ بِسَلَبِهِمَا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعُزِلَ سَلَبُهُمَا حَتّى بُعِثَ بِهِ مَعَ دِيَتِهِمَا
وَذَلِكَ أَنّ عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِك قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِي ، وَلَهُمَا مِنْك أَمَانٌ وَعَهْدٌ فَابْعَثْ بِدِيَتِهِمَا إلَيْنَا . فَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُ فِي دِيَتِهِمَا ، وَكَانَتْ بَنُو النّضِيرِ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَامِرٍ . فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ السّبْتِ فَصَلّى فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، ثُمّ جَاءَ بَنِي النّضِيرِ فَيَجِدُهُمْ فِي نَادِيهِمْ فَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ فَكَلّمَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُعِينُوهُ فِي دِيَةِ الْكِلَابِيّيْنِ اللّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ . فَقَالُوا : نَفْعَلُ يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا أَحْبَبْت . قَدْ أَنَى لَك أَنْ تَزُورَنَا وَأَنْ تَأْتِيَنَا ، اجْلِسْ حَتّى نُطْعِمَك وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُسْتَنِدٌ إلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ ثُمّ خَلَا بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَتَنَاجَوْا ، فَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ : يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ ، قَدْ جَاءَكُمْ مُحَمّدٌ فِي نَفِيرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لَا يَبْلُغُونَ عَشْرَةً - وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ ، وَعُمَرُ وَعَلِيّ ، وَالزّبَيْرُ وَطَلْحَةُ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - فَاطْرَحُوا عَلَيْهِ حِجَارَةً مِنْ فَوْقِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي هُوَ تَحْتَهُ فَاقْتُلُوهُ فَلَنْ تَجِدُوهُ أَخْلَى مِنْهُ السّاعَةَ فَإِنّهُ إنْ قُتِلَ تَفَرّقَ أَصْحَابُهُ فَلَحِقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ بِحَرَمِهِمْ وَبَقِيَ مَنْ هَاهُنَا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حُلَفَاؤُكُمْ فَمَا كُنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَصْنَعُوا يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ فَمِنْ الْآنَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشٍ : أَنَا أَظْهَرُ عَلَى الْبَيْتِ [ ص 365 ] فَأَطْرَحُ عَلَيْهِ صَخْرَةً.
قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ : يَا قَوْمِ أَطِيعُونِي هَذِهِ الْمَرّةَ وَخَالِفُونِي الدّهْرَ وَاَللّهِ إنْ فَعَلْتُمْ لَيُخْبَرَنّ بِأَنّا قَدْ غَدَرْنَا بِهِ وَإِنّ هَذَا نَقْضُ الْعَهْدِ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَلَا تَفْعَلُوا أَلَا فَوَاَللّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ الّذِي تُرِيدُونَ لَيَقُومَنّ بِهَذَا الدّينِ مِنْهُمْ قَائِمٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَسْتَأْصِلُ الْيَهُودَ وَيُظْهِرُ دِينَهُ وَقَدْ هَيّأَ الصّخْرَةَ لِيُرْسِلَهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَحْدُرَهَا ، فَلَمّا أَشْرَفَ بِهَا جَاءَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا هَمّوا بِهِ فَنَهَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَرِيعًا كَأَنّهُ يُرِيدُ حَاجَةً وَتَوَجّهَ إلَى الْمَدِينَةِ . وَجَلَسَ أَصْحَابُهُ يَتَحَدّثُونَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّهُ قَامَ يَقْضِي حَاجَةً فَلَمّا يَئِسُوا مِنْ ذَلِكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مَا مُقَامُنَا هَا هُنَا بِشَيْءٍ لَقَدْ وَجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَمْرٍ . فَقَامُوا ، فَقَالَ حُيَيّ : عَجّلَ أَبُو الْقَاسِمِ قَدْ كُنّا نُرِيدُ أَنْ نَقْضِيَ حَاجَتَهُ وَنُغَدّيَهُ . وَنَدِمَتْ الْيَهُودُ عَلَى مَا صَنَعُوا ، فَقَالَ لَهُمْ كِنَانَةُ بْنُ صُوَيْرَاءَ هَلْ تَدْرُونَ لِمَ قَامَ مُحَمّدٌ ؟ قَالُوا : لَا وَاَللّهِ مَا نَدْرِي وَمَا تَدْرِي أَنْتَ قَالَ بَلَى وَالتّوْرَاةِ ، إنّي لَأَدْرِي ، قَدْ أُخْبِرَ مُحَمّدٌ مَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْغَدْرِ فَلَا تَخْدَعُوا أَنَفْسَكُمْ وَاَللّهِ إنّهُ لَرَسُولُ اللّهِ وَمَا قَامَ إلّا أَنّهُ أُخْبِرَ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ . وَإِنّهُ لَآخِرُ الْأَنْبِيَاءِ كُنْتُمْ تَطْمَعُونَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي هَارُونَ فَجَعَلَهُ اللّهُ حَيْثُ شَاءَ . وَإِنّ كُتُبَنَا وَاَلّذِي دَرَسْنَا فِي التّوْرَاةِ الّتِي لَمْ تُغَيّرْ وَلَمْ تُبَدّلْ أَنّ مَوْلِدَهُ بِمَكّةَ وَدَارَ هِجْرَتِهِ يَثْرِبُ ، وَصِفَتُهُ بِعَيْنِهَا مَا تُخَالِفُ حَرْفًا مِمّا فِي كِتَابِنَا ، وَمَا يَأْتِيكُمْ [ بِهِ ] أَوْلَى مِنْ مُحَارَبَتِهِ إيّاكُمْ وَلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْكُمْ ظَاعِنِينَ يَتَضَاغَى صِبْيَانُكُمْ قَدْ تَرَكْتُمْ دُورَكُمْ خُلُوفًا [ ص 366 ] وَأَمْوَالَكُمْ وَإِنّمَا هِيَ شَرَفُكُمْ فَأَطِيعُونِي فِي خُصْلَتَيْنِ وَالثّالِثَةُ لَا خَيْرَ فِيهَا قَالُوا : مَا هُمَا ؟ قَالَ تُسْلِمُونَ وَتَدْخُلُونَ مَعَ مُحَمّدٍ فَتَأْمَنُونَ عَلَى أَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ وَتَكُونُونَ مِنْ عِلْيَةِ أَصْحَابِهِ وَتَبْقَى بِأَيْدِيكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا تُخْرَجُونَ مِنْ دِيَارِكُمْ . قَالُوا : لَا نُفَارِقُ التّوْرَاةَ وَعَهْدَ مُوسَى قَالَ فَإِنّهُ مُرْسَلٌ إلَيْكُمْ اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي ، فَقُولُوا نَعَمْ - فَإِنّهُ لَا يَسْتَحِلّ لَكُمْ دَمًا وَلَا مَالًا - وَتَبْقَى أَمْوَالُكُمْ إنْ شِئْتُمْ بِعْتُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ .
قَالُوا : أَمّا هَذَا فَنَعَمْ . قَالَ أَمَا وَاَللّهِ إنّ الْأُخْرَى خَيْرُهُنّ لِي . قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا أَنّي أَفْضَحُكُمْ لَأَسْلَمْت . وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا تُعَيّرُ شَعْثَاءُ بِإِسْلَامِي أَبَدًا حَتّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكُمْ - وَابْنَتُهُ شَعْثَاءُ الّتِي كَانَ حَسّانٌ يَنْسِبُ بِهَا .
فَقَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ : قَدْ كُنْت لِمَا صَنَعْتُمْ كَارِهًا ، وَهُوَ مُرْسِلٌ إلَيْنَا أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ دَارِي ، فَلَا تُعَقّبْ يَا حُيَيّ كَلَامَهُ وَأَنْعِمْ لَهُ بِالْخُرُوجِ فَاخْرُجْ مِنْ بِلَادِهِ قَالَ أَفْعَلُ أَنَا أَخْرُجُ
فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ تَبِعَهُ أَصْحَابُهُ فَلَقَوْا رَجُلًا خَارِجًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُ هَلْ لَقِيت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَ لَقِيته بِالْجِسْرِ دَاخِلًا . فَلَمّا انْتَهَى أَصْحَابُهُ إلَيْهِ وَجَدُوهُ قَدْ أَرْسَلَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ يَدْعُوهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ قُمْت وَلَمْ نَشْعُرْ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَمّتْ الْيَهُودُ بِالْغَدْرِ بِي ، فَأَخْبَرَنِي اللّهُ بِذَلِكَ فَقُمْت . وَجَاءَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ اذْهَبْ إلَى يَهُودِ بَنِي النّضِيرِ فَقُلْ لَهُمْ إنّ رَسُولَ اللّهِ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ أَنْ اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِه
فَلَمّا جَاءَهُمْ قَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ بِرِسَالَةٍ وَلَسْت أَذْكُرُهَا لَكُمْ حَتّى أُعَرّفَكُمْ شَيْئًا تَعْرِفُونَهُ .
قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِالتّوْرَاةِ الّتِي أَنَزَلَ اللّهُ عَلَى مُوسَى ، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّي جِئْتُكُمْ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَكُمْ التّوْرَاةُ ، فَقُلْتُمْ لِي فِي مَجْلِسِكُمْ هَذَا : يَا ابْنَ مَسْلَمَةَ إنْ شِئْت أَنْ نُغَدّيَك غَدّيْنَاك ، وَإِنْ شِئْت أَنّ نُهَوّدَك هَوّدْنَاك . فَقُلْت لَكُمْ غَدّونِي وَلَا تُهَوّدُونِي ، فَإِنّي وَاَللّهِ لَا أَتَهَوّدُ أَبَدًا فَغَدّيْتُمُونِي فِي صَحْفَةٍ لَكُمْ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهَا كَأَنّهَا جَزْعَةٌ فَقُلْتُمْ لِي : مَا يَمْنَعُك مِنْ دِينِنَا إلّا أَنّهُ دِينُ يَهُودَ . كَأَنّك تُرِيدُ الْحَنِيفِيّةَ الّتِي سَمِعْت بِهَا ، أَمَا إنّ أَبَا عَامِرٍ قَدْ سَخِطَهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا ، أَتَاكُمْ صَاحِبُهَا الضّحُوكُ الْقَتّالُ فِي عَيْنَيْهِ حُمْرَةٌ يَأْتِي مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ ، يَرْكَبُ الْبَعِيرَ وَيَلْبَسُ الشّمْلَةَ وَيَجْتَزِئُ بِالْكِسْرَةِ سَيْفُهُ عَلَى عَاتِقِهِ لَيْسَتْ مَعَهُ آيَةٌ هُوَ يَنْطِقُ بِالْحِكْمَةِ كَأَنّهُ وَشِيجَتُكُمْ هَذِهِ وَاَللّهِ لَيَكُونَنّ بِقَرْيَتِكُمْ هَذِهِ سَلَبٌ وَقَتْلٌ وَمَثْلٌ قَالُوا : اللّهُمّ نَعَمْ قَدْ قُلْنَاهُ لَك وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ .

رسول الله   · يأمر اليهود بالجلاء:

قَالَ قَدْ فَرَغْت ، إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْسَلَنِي إلَيْكُمْ يَقُولُ لَكُمْ قَدْ نَقَضْتُمْ الْعَهْدَ الّذِي جَعَلْت لَكُمْ بِمَا هَمَمْتُمْ بِهِ مِنْ الْغَدْرِ بِي وَأَخْبَرَهُمْ بِمَا كَانُوا ارْتَأَوْا مِنْ الرّأْيِ وَظُهُورِ عَمْرِو بْنِ جَحّاشٍ عَلَى الْبَيْتِ يَطْرَحُ الصّخْرَةَ فَأَسْكَتُوا فَلَمْ يَقُولُوا حَرْفًا .
وَيَقُولُ اُخْرُجُوا مِنْ بَلَدِي ، فَقَدْ أَجّلْتُكُمْ عَشْرًا فَمَنْ رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ ضَرَبْت عُنُقَهُ قَالُوا : يَا مُحَمّدُ مَا كُنّا نَرَى أَنْ يَأْتِيَ بِهَذَا رَجُلٌ مِنْ الْأَوْسِ .
قَالَ مُحَمّدٌ تَغَيّرَتْ الْقُلُوبُ . فَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ أَيّامًا يَتَجَهّزُونَ وَأَرْسَلُوا إلَى ظَهْرٍ لَهُمْ بِذِي الْجَدْرِ تُجْلَبُ وَتَكَارَوْا مِنْ نَاسٍ مِنْ أَشْجَعَ [ ص 368 ] [ إبِلًا ] وَأَخَذُوا فِي الْجَهَازِ .

مناصرة المنافقين لليهود وابن سلول يعدهم وعودا كاذبة:

فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ جَاءَهُمْ رَسُولُ ابْنِ أُبَيّ ، أَتَاهُمْ سُوَيْدٌ وَدَاعِسٌ فَقَالَا : يَقُولُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ : لَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَأَقِيمُوا فِي حُصُونِكُمْ فَإِنّ مَعِي أَلْفَيْنِ مِنْ قَوْمِي وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ ، يَدْخُلُونَ مَعَكُمْ حِصْنَكُمْ فَيَمُوتُونَ مِنْ آخِرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَيْكُمْ وَتَمُدّكُمْ قُرَيْظَةُ فَإِنّهُمْ لَنْ يَخْذُلُوكُمْ وَيَمُدّكُمْ حُلَفَاؤُكُمْ مِنْ غَطَفَانَ .
وَأَرْسَلَ ابْنُ أُبَيّ إلَى كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ يُكَلّمُهُ أَنْ يَمُدّ أَصْحَابَهُ فَقَالَ لَا يَنْقُضُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ رَجُلٌ وَاحِدٌ الْعَهْدَ .
فَيَئِسَ ابْنُ أُبَيّ مِنْ قُرَيْظَةَ وَأَرَادَ أَنْ يُلْحِمَ الْأَمْرَ فِيمَا بَيْنَ بَنِي النّضِيرِ وَرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَزَلْ يُرْسِلُ إلَى حُيَيّ حَتّى قَالَ حُيَيّ : أَنَا أُرْسِلُ إلَى مُحَمّدٍ أُعْلِمُهُ أَنّا لَا نَخْرُجُ مِنْ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا ، فَلْيَصْنَعْ مَا بَدَا لَهُ .
وَطَمِعَ حُيَيّ فِيمَا قَالَ ابْنُ أُبَيّ ، وَقَالَ حُيَيّ : نَرْمِ حُصُونَنَا ، ثُمّ نُدْخِلُ مَاشِيَتَنَا ، وَنُدْرِبُ أَزِقّتَنَا ، وَنَنْقُلُ الْحِجَارَةَ إلَى حُصُونِنَا ، وَعِنْدَنَا مِنْ الطّعَامِ مَا يَكْفِينَا سَنَةً وَمَاؤُنَا وَاتِنٌ فِي حُصُونِنَا لَا نَخَافُ قَطْعَهُ . فَتَرَى مُحَمّدًا يَحْصُرُنَا سَنَةً ؟ لَا نَرَى هَذَا .
قَالَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ : مَنّتْك نَفْسُك وَاَللّهِ يَا حُيَيّ الْبَاطِلَ إنّي وَاَللّهِ لَوْلَا أَنْ يُسَفّهَ رَأْيُك أَوْ يُزْرَى بِك لَاعْتَزَلْتُك بِمَنْ أَطَاعَنِي مِنْ الْيَهُودِ ; فلا تَفْعَلْ يَا حُيَيّ ، فَوَاَللّهِ إنّك لَتَعْلَمُ وَنَعْلَمُ مَعَك أَنّهُ لَرَسُولُ اللّهِ وَأَنّ صِفَتَهُ عِنْدَنَا ، فَإِنْ لَمْ نَتّبِعْهُ وَحَسَدْنَاهُ حَيْثُ خَرَجَتْ النّبُوّةُ مِنْ بَنِي هَارُونَ فَتَعَالَ فَنَقْبَلَ مَا أَعْطَانَا مِنْ الْأَمْنِ وَنَخْرُجْ [ ص 369 ] مِنْ بِلَادِهِ فَقَدْ عَرَفْت أَنّك خَالَفَتْنِي فِي الْغَدْرِ بِهِ فَإِذَا كَانَ أَوَانُ الثّمَرِ جِئْنَا أَوْ جَاءَ مَنْ جَاءَ مِنّا إلَى ثَمَرِهِ فَبَاعَ أَوْ صَنَعَ مَا بَدَا لَهُ ثُمّ انْصَرَفَ إلَيْنَا .
فَكَأَنّا لَمْ نَخْرُجْ مِنْ بِلَادِنَا إذَا كَانَتْ أَمْوَالُنَا بِأَيْدِينَا ; إنّا إنّمَا شَرُفْنَا عَلَى قَوْمِنَا بِأَمْوَالِنَا وَفِعَالِنَا ، فَإِذَا ذَهَبَتْ أَمْوَالُنَا مِنْ أَيْدِينَا كُنّا كَغَيْرِنَا مِنْ الْيَهُودِ فِي الذّلّةِ وَالْإِعْدَامِ .
وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ سَارَ إلَيْنَا فَحَصَرَنَا فِي هَذِهِ الصّيَاصِي يَوْمًا وَاحِدًا ، ثُمّ عَرَضْنَا عَلَيْهِ مَا أَرْسَلَ بِهِ إلَيْنَا ، لَمْ يَقْبَلْهُ وَأَبَى عَلَيْنَا .
قَالَ حُيَيّ : إنّ مُحَمّدًا لَا يَحْصُرُنَا [ إلّا ] إنْ أَصَابَ مِنّا نُهْزَةً وَإِلّا انْصَرَفَ وَقَدْ وَعَدَنِي ابْنُ أُبَيّ مَا قَدْ رَأَيْت .
فَقَالَ سَلّامٌ لَيْسَ قَوْلُ ابْنِ أُبَيّ بِشَيْءٍ إنّمَا يُرِيدُ ابْنُ أُبَيّ أَنْ يُوَرّطَك فِي الْهَلَكَةِ حَتّى تُحَارِبَ مُحَمّدًا ، ثُمّ يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ وَيَتْرُكُك . قَدْ أَرَادَ مِنْ كَعْبِ بْنِ أَسَدٍ النّصْرَ فَأَبَى كَعْبٌ وَقَالَ لَا يَنْقُضُ الْعَهْدَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَأَنَا حَيّ .
وَإِلّا فَإِنّ ابْنَ أُبَيّ قَدْ وَعَدَ حُلَفَاءَهُ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ مِثْلَ مَا وَعَدَك حَتّى حَارَبُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ وَحَصَرُوا أَنَفْسَهُمْ فِي صَيَاصِيِهِمْ وَانْتَظَرُوا نُصْرَةَ ابْنِ أُبَيّ ، فَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَسَارَ مُحَمّدٌ إلَيْهِمْ فَحَصَرَهُمْ حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَابْنُ أُبَيّ لَا يَنْصُرُ حُلَفَاءَهُ وَمَنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ وَنَحْنُ لَمْ نَزَلْ نَضْرِبُهُ بِسُيُوفِنَا مَعَ الْأَوْسِ فِي حَرْبِهِمْ كُلّهَا ، إلَى أَنْ تَقَطّعَتْ حَرْبُهُمْ فَقَدِمَ مُحَمّدٌ فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ .
وَابْنُ أُبَيّ لَا يَهُودِيّ عَلَى دِينِ يَهُودَ وَلَا عَلَى دِينِ مُحَمّدٍ وَلَا هُوَ عَلَى دِين قَوْمِهِ فَكَيْفَ تَقْبَلُ مِنْهُ قَوْلًا قَالَهُ ؟ قَالَ حُيَيّ : تَأْبَى نَفْسِي إلّا عَدَاوَةَ مُحَمّدٍ وَإِلّا قِتَالَهُ .
قَالَ سَلّامٌ فَهُوَ وَاَللّهِ جَلَانَا مِنْ أَرْضِنَا ، وَذَهَابُ أَمْوَالِنَا ، وَذَهَابُ شَرَفِنَا ، أَوْ سِبَاءُ ذَرَارِيّنَا مَعَ قَتْلِ مُقَاتِلِينَا .
فَأَبَى حُيَيّ إلّا مُحَارَبَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ سَارُوكُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ - وَكَانَ ضَعِيفًا عِنْدَهُمْ فِي عَقْلِهِ [ ص 370 ] كَأَنّ بِهِ جِنّةٌ - يَا حُيَيّ ، أَنْتَ رَجُلٌ مَشْئُومٌ تُهْلِكُ بَنِي النّضِيرِ فَغَضِبَ حُيَيّ وَقَالَ كُلّ بَنِي النّضِيرِ قَدْ كَلّمَنِي حَتّى هَذَا الْمَجْنُونُ . فَضَرَبَهُ إخْوَتُهُ وَقَالُوا لِحُيَيّ أَمْرُنَا لِأَمْرِك تَبَعٌ ، لَنْ نُخَالِفَك .

اليهود يستعيدون الحماس ويرفضون الجلاء:

فَأَرْسَلَ حُيَيّ أَخَاهُ جُدَيّ بْنَ أَخْطَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّا لَا نَبْرَحُ مِنْ دَارِنَا وَأَمْوَالِنَا ، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ .
وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ ابْنَ أُبَيّ فَيُخْبِرَهُ بِرِسَالَتِهِ إلَى مُحَمّدٍ وَيَأْمُرَهُ بِتَعْجِيلِ مَا وَعَدَ مِنْ النّصْرِ .
فَذَهَبَ جُدَيّ بْنُ أَخْطَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاَلّذِي أَرْسَلَهُ حُيَيّ ، فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُ فَأَظْهَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ التّكْبِيرَ وَكَبّرَ الْمُسْلِمُونَ لِتَكْبِيرِهِ وَقَالَ حَارَبْت الْيَهُود.
وَاعْتَزَلَتْهُمْ قُرَيْظَةُ فَلَمْ تُعِنْهُمْ [ ص 371 ] بِسِلَاحٍ وَلَا رِجَالٍ وَلَمْ يَقْرَبُوهُمْ . وَجَعَلُوا يَرْمُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالنّبْلِ وَالْحِجَارَةِ حَتّى أَظَلَمُوا ، وَجَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْدَمُونَ مَنْ كَانَ تَخَلّفَ فِي حَاجَتِهِ حَتّى تَتَامّوا عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعِشَاءَ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ الدّرْعُ وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ .
وَقَدْ اسْتَعْمَلَ عَلِيّا عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْعَسْكَرِ وَيُقَالُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ .

محاصرة اليهود:

وَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يُحَاصِرُونَهُمْ . يُكَبّرُونَ حَتّى أَصْبَحُوا ، ثُمّ أَذّنَ بِلَالٌ بِالْمَدِينَةِ . فَغَدَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَصْحَابِهِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ .
فَصَلّى بِالنّاسِ بِفَضَاءِ بَنِي خَطْمَةَ . وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ ; وَحُمِلَتْ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُبّةٌ مِنْ أَدَمٍ .
وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ كَانَتْ الْقُبّةُ مِنْ غَرَبٍ عَلَيْهَا مُسُوحٌ . أَرْسَلَ بِهَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ . فَأَمَرَ بِلَالًا فَضَرَبَهَا فِي مَوْضِعٍ الْمَسْجِدِ الصّغِيرِ الّذِي بِفَضَاءِ بَنِي خَطْمَةَ . وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقُبّةَ . وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ يُقَالُ لَهُ عَزْوَك . وَكَانَ أَعْسَرَ رَامِيًا ، فَرَمَى فَبَلَغَ نَبْلُهُ قُبّةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمَرَ بِقُبّتِهِ فَحُوّلَتْ إلَى مَسْجِدِ الْفَضِيخِ وَتَبَاعَدَتْ مِنْ النّبْلِ .
وَأَمْسَوْا فَلَمْ يَقْرَبْهُمْ ابْنُ أُبَيّ وَلَا أَحَدٌ مِنْ حُلَفَائِهِ وَجَلَسَ فِي بَيْتِهِ وَيَئِسَتْ بَنُو النّضِيرِ مِنْ نَصْرِهِ وَجَعَلَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ وَكِنَانَةُ بْنُ صُوَيْرَاءَ يَقُولَانِ لِحُيَيّ أَيْنَ نَصْرُ بْنُ أُبَيّ كَمَا زَعَمْت ؟ قَالَ حُيَيّ : فَمَا أَصْنَعُ ؟ هِيَ [ ص 372 ] مَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَيْنَا .

علي بن أبي طالب يحمل رأس غزول على رمحه:

وَلَزِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الدّرْعُ وَبَاتَ وَظَلّ مُحَاصِرَهُمْ فَلَمّا كَانَ لَيْلَةً مِنْ اللّيَالِي فُقِدَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ حَيْنَ قَرُبَ الْعِشَاءُ فَقَالَ النّاسُ مَا نَرَى عَلِيّا يَا رَسُولَ اللّهِ .

كتيبة إسلامية في طلب اليهود:

قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعُوهُ فَإِنّهُ فِي بَعْضِ شَأْنِكُمْ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ بِرَأْسِ عَزْوَك ، فَطَرَحَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي كَمَنْت لِهَذَا الْخَبِيثِ فَرَأَيْت رَجُلًا شُجَاعًا ، فَقُلْت : مَا أَجْرَأَهُ أَنْ يَخْرُجَ إذَا أَمْسَيْنَا يَطْلُبُ مِنّا غِرّةً . فَأَقْبَلَ مُصْلِتًا سَيْفَهُ فِي نَفَرٍ مِنْ الْيَهُودِ ، فَشَدَدْت عَلَيْهِ فَقَتَلْته ، وَأَجْلَى أَصْحَابَهُ وَلَمْ يَبْرَحُوا قَرِيبًا ، فَإِنْ بَعَثْت مَعِي نَفَرًا رَجَوْت أَنْ أَظْفَرَ بِهِمْ . فَبَعَثَ مَعَهُ أَبَا دُجَانَةَ وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ فِي عَشَرَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْل أَنْ يَدْخُلُوا حِصْنَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ وَأَتَوْا بِرُءُوسِهِمْ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرُءُوسِهِمْ فَطُرِحَتْ فِي بَعْضِ بِئَارِ بَنِي خَطْمَةَ .

أوامر بقطع نخيل اليهود:

وَكَانَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَحْمِلُ التّمْرَ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَأَقَامُوا فِي حِصْنِهِمْ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّخْلِ فَقُطِعَتْ وَحُرِقَتْ . وَاسْتَعْمَلَ عَلَى قَطْعِهَا رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَبَا لَيْلَى الْمَازِنِيّ ، وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ سَلّامٍ ، فَكَانَ أَبُو لَيْلَى يَقْطَعُ الْعَجْوَةَ وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلّامٍ يَقْطَعُ اللّوْنَ فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو لَيْلَى : كَانَتْ الْعَجْوَةُ أَحْرَقَ لَهُمْ . وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ قَدْ عَرَفْت أَنّ اللّهَ سَيُغْنِمُهُ أَمْوَالَهُمْ وَكَانَتْ الْعَجْوَةُ خَيْرَ أَمْوَالِهِمْ فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ رِضَاءً بِمَا صَنَعْنَا جَمِيعًا . .. مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَلْوَانِ النّخْلِ لِلّذِي فَعَلَ ابْنُ سَلّامٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا يَعْنِي الْعَجْوَةَ فَبِإِذْنِ اللّهِ وَقَطَعَ أَبُو لَيْلَى الْعَجْوَةَ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ يَعْنِي بَنِي النّضِيرِ [ ص 373 ] رِضَاءً مِنْ اللّهِ بِمَا صَنَعَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا .

اليهود يدعون بالويل على قطع النخيل:

فَلَمّا قُطِعَتْ الْعَجْوَةُ شَقّ النّسَاءُ الْجُيُوبَ وَضَرَبْنَ الْخُدُودَ وَدَعَوْنَ بِالْوَيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا لَهُنّ ؟ فَقِيلَ يَجْزَعْنَ عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ مِثْلَ الْعَجْوَةِ جُزِعَ عَلَيْهِ . ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَجْوَةُ وَالْعَتِيقُ - الْفَحْلُ الّذِي يُؤَبّرُ بِهِ النّخْلُ - مِنْ الْجَنّةِ ، وَالْعَجْوَةُ شِفَاءٌ مِنْ السّمّ
فَلَمّا صِحْنَ صَاحَ بِهِنّ أَبُو رَافِعٍ سَلّامٌ إنْ قُطِعَتْ الْعَجْوَةُ هَاهُنَا ، فَإِنّ لَنَا بِخَيْبَرٍ عَجْوَةً . قَالَتْ عَجُوزٌ مِنْهُنّ خَيْبَرٌ ، يُصْنَعُ بِهَا مِثْلُ هَذَا فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ فَضّ اللّهُ فَاك إنّ حُلَفَائِي بِخَيْبَرٍ لَعَشَرَةُ آلَافِ مُقَاتِلٍ . فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْلُهُ فَتَبَسّمَ .

اليهود يصرخون بالسلام والعدل:

وَجَزِعُوا عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ فَجَعَلَ سَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ يَقُولُ يَا حُيَيّ ، الْعَذْقُ خَيْرٌ مِنْ الْعَجْوَةِ يُغْرَسُ فَلَا يُطْعِمُ ثَلَاثِينَ سَنَةً يُقْطَعُ فَأَرْسَلَ حُيَيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مُحَمّدُ إنّك كُنْت تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ لِمَ تَقْطَعُ النّخْلَ ؟

الرد عليهم بالوحي:

فنزل قوله تعالى: {ما قطعتم من لِيْنة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليجزي الفاسقين}. (سورة الحشر، الآية 5)

المنافقون يطّمنون اليهود:

وكان عبد الله بن اُبي بن سلول يراسل بني النضير، ويأمرهم بالتصلّب في موقفهم، ولا يخرجوا من المدينة، وقال: فإن واصلتم القتال واصلنا معكم، وإن اُخرجتم لنخرجنّ معكم.

غدر ابي بن سلول:

وَخَرَجَ جُدَيّ حَتّى دَخَلَ عَلَى ابْنِ أُبَيّ وَهُوَ جَالِسٌ فِي بَيْتِهِ مَعَ نَفِيرٍ مِنْ حُلَفَائِهِ وَقَدْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي النّضِيرِ فَيَدْخُلُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ عَلَى عَبْدِ اللّهِ أَبِيهِ وَعَلَى النّفَرِ مَعَهُ وَعِنْدَهُ جُدَيّ بْنُ أَخْطَبَ فَلَبِسَ دِرْعَهُ وَأَخَذَ سَيْفَهُ فَخَرَجَ يَعْدُو ، فَقَالَ جُدَيّ : لَمّا رَأَيْت ابْنَ أُبَيّ جَالِسًا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ وَابْنُهُ عَلَيْهِ السّلَاحُ يَئِسْت مِنْ نَصْرِهِ فَخَرَجْت أَعْدُو إلَى حُيَيّ فَقَالَ مَا وَرَاءَك ؟ قُلْت : الشّرّ سَاعَةَ أَخْبَرْت مُحَمّدًا بِمَا أَرْسَلْت بِهِ إلَيْهِ أَظْهَرَ التّكْبِيرَ وَقَالَ « حَارَبْت الْيَهُودَ » . فَقَالَ هَذِهِ مَكِيدَةٌ مِنْهُ . قَالَ وَجِئْت ابْنَ أُبَيّ فَأَعْلَمْته ، وَنَادَى مُنَادِي مُحَمّدٍ بِالْمَسِيرِ إلَى بَنِي النّضِيرِ .
قَالَ وَمَا رَدّ عَلَيْك ابْنُ أُبَيّ ؟ فَقَالَ جُدَيّ : لَمْ أَرَ عِنْدَهُ خَيْرًا . قَالَ أَنَا أُرْسِلُ إلَى حُلَفَائِي فَيَدْخُلُونَ مَعَكُمْ . وَسَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَصَلّى الْعَصْرَ بِفَضَاءِ بَنِي النّضِيرِ فَلَمّا رَأَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابَهُ قَامُوا عَلَى جُدُرِ حُصُونِهِمْ مَعَهُمْ النّبْلُ وَالْحِجَارَةُ .

قلق حُيي بن الأخطب وحُزنه:

ولمّا حلّ ببني النضير ما حل، قال حُيي بن الأخطب: « هي ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل».

الموافقة على الجلاء:

ثم قالوا: نَحْنُ نُعْطِيك الّذِي سَأَلْت ، وَنَخْرُجُ مِنْ بِلَادِك . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ وَلَكِنْ اُخْرُجُوا مِنْهَا وَلَكُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةُ
ثُمّ نَزَلَتْ الْيَهُودُ عَلَى أَنّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ الْإِبِلُ إلّا الْحَلْقَةُ فَلَمّا أَجْلَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِابْنِ يَامِينَ أَلَمْ تَرَ إلَى ابْنِ عَمّك عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ وَمَا هَمّ بِهِ مِنْ قَتْلِي ؟ وَهُوَ زَوْجُ أُخْتِهِ كَانَتْ الرّوَاعُ بِنْتُ عُمَيْرٍ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ . فَقَالَ ابْنُ يَامِينَ أَنَا أَكْفِيكَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ . فَجَعَلَ لِرَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جِحَاشٍ ، وَيُقَالُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ . فَاغْتَالَهُ فَقَتَلَهُ ثُمّ جَاءَ ابْنُ يَامِينَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقَتْلِهِ فَسُرّ بِذَلِكَ .
وَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، فَأَجَلَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَوَلِيَ إخْرَاجَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ . فَقَالُوا : إنّ لَنَا دُيُونًا عَلَى النّاسِ إلَى آجَالٍ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَعَجّلُوا وَضَعُوا فَكَانَ لِأَبِي رَافِعٍ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ عَلَى أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ دِينَارٍ إلَى سَنَةٍ فَصَالَحَهُ عَلَى أَخْذِ رَأْسِ مَالِهِ ثَمَانِينَ دِينَارًا ، وَأَبْطَلَ مَا فَضَلَ .

حمل اليهود ما استطاعوا حمله ما عدا الحلقة:

وَكَانُوا فِي حِصَارِهِمْ يُخَرّبُونَ بُيُوتَهُمْ مِمّا يَلِيهِمْ وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرّبُونَ مَا يَلِيهِمْ وَيُحَرّقُونَ حَتّى وَقَعَ الصّلْحُ فَتَحَمّلُوا ، فَجَعَلُوا يَحْمِلُونَ الْخَشَبَ وَنُجُفَ الْأَبْوَابِ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِصَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ لَوْ رَأَيْتنِي وَأَنَا أَشُدّ الرّحْلَ لِخَالِك بَحْرِيّ بْنِ عَمْرٍو وَأُجْلِيهِ مِنْهَا وَحَمَلُوا النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ فَخَرَجُوا عَلَى بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ عَلَى الْجَبَلِيّةِ ثُمّ عَلَى الْجِسْرِ حَتّى مَرّوا بِالْمُصَلّى ، ثُمّ شَقّوا سُوقَ الْمَدِينَةِ ، وَالنّسَاءُ فِي الْهَوَادِجِ عَلَيْهِنّ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ وَقُطُفُ الْخَزّ الْخُضْرُ وَالْحُمْرُ وَقَدْ صَفّ لَهُمْ النّاسُ فَجَعَلُوا يَمُرّونَ قِطَارًا فِي أَثَرِ قِطَارٍ فَحُمِلُوا عَلَى سِتّمِائَةِ بَعِيرٍ يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 375 ] هَؤُلَاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ.

دروس وعبر في خروج اليهود من المدينة:

وَحَمَلُوا النّسَاءَ وَالصّبْيَانَ فَخَرَجُوا عَلَى بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ عَلَى الْجَبَلِيّةِ ثُمّ عَلَى الْجِسْرِ حَتّى مَرّوا بِالْمُصَلّى ، ثُمّ شَقّوا سُوقَ الْمَدِينَةِ ، وَالنّسَاءُ فِي الْهَوَادِجِ عَلَيْهِنّ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ وَقُطُفُ الْخَزّ الْخُضْرُ وَالْحُمْرُ وَقَدْ صَفّ لَهُمْ النّاسُ فَجَعَلُوا يَمُرّونَ قِطَارًا فِي أَثَرِ قِطَارٍ فَحُمِلُوا عَلَى سِتّمِائَةِ بَعِيرٍ يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 375 ] هَؤُلَاءِ فِي قَوْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الْمُغِيرَةِ فِي قُرَيْشٍ.
قَالَ وَمَرّوا يَضْرِبُونَ بِالدّفُوفِ وَيُزَمّرُونَ بِالْمَزَامِيرِ وَعَلَى النّسَاءِ الْمُعَصْفَرَاتُ وَحُلِيّ الذّهَبِ مُظْهِرِينَ ذَلِكَ تَجَلّدًا .
قَالَ يَقُولُ جُبَارُ بْنُ صَخْرٍ : مَا رَأَيْت زُهَاءَهُمْ لِقَوْمٍ زَالُوا مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ . وَنَادَى أَبُو رَافِعٍ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَرَفَعَ مَسْكَ الْجَمَلِ وَقَالَ هَذَا مِمّا نَعُدّهُ لِخَفْضِ الْأَرْضِ وَرَفْعِهَا ، فَإِنْ يَكُنْ النّخْلُ قَدْ تَرَكْنَاهَا فَإِنّا نَقْدَمُ عَلَى نَخْلٍ بِخَيْبَرٍ .

ثراء اليهود:

وكل ما كان لديهم من الذهب والفضة والثراء الفاحش كان بفضل تجارتهم مع العرب التي تبتني على الربا، يحتفظ بها أبناء أبي الحُقيق، وسوف يأتي عند ذكر قصّة غزوة خيبر أن النبي · عبّر عن هذا المال بلفظ المتاع والخزانة، ولأجله قُتل ابنا أبي الحُقيق، إذ أخفياه في مكان، فأهدر النبي · دمهما.

اليهود ينزلون خيبر بعد المدينة:

وبعدما أجلاهم النبي · من المدينة نزل بعضهم بخيبر، ومن بينهم سراتهم، كحُيّي بن الأخطب، وسلام ابن أبي الحقيق، وكنانة أبو ربيع ابن أبي الحُقيق وغيره. وأقرضهم أهلها ليستقروا بها.

ذكر ما نزل من القرآن في بني النضير:

أنزل الله تعالى سورة الحشر في بني النضير، وكان عبد الله بن عباس رضي الله عنه يسميها سورة بني النضير، كما عند البخاري في صحيحه. وقال السبكي: لا اختلاف بين أهل العلم أن سورة الحشر نزلت في بني النضير.

أول حشر يهود بني النضير:

قال موسى بن عقبة: منذ أن نزلت بنو النضير المدينة لم تواجه الجلاء، لذلك سُمّى ما حصل معهم بأول الحشر، وأراد به جلاءهم ومغادرتهم لديارهم وأراضيهم، وقيل: أراد به محشر الآخرة، لأنهم قالوا لمّا أجلاهم النبي · من المدينة: قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخرجوا». قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى أرض المحشر».
وحشرهم الثاني النار، تخرج من عدن باليمن عند اقتراب الساعة، فيفقدون وعيهم ويهربون، حتى يجتمعون بالموضع الذي ينتظر فيه الناس لحساب أعمالهم يوم القيامة.

ما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير:

وَقَبَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَمْوَالَ وَقَبَضَ الْحَلْقَةَ فَوَجَدَ مِنْ الْحَلْقَةِ خَمْسِينَ دِرْعًا ، وَخَمْسِينَ بَيْضَةً وَثَلَاثَمِائَةِ سَيْفٍ وَأَرْبَعِينَ سَيْفًا.
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا تُخَمّسُ مَا أَصَبْت مِنْ بَنِي النّضِيرِ كَمَا خَمّسْت مَا أَصَبْت مِنْ بَدْرٍ ؟

ما كانت خالصة لرسول الله   ·:

 فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا أَجْعَلُ شَيْئًا جَعَلَهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِي دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} الْآيَةُ.
كَهَيْئَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ السّهْمَانِ لِلْمُسْلِمِينَ.

استشارة الأنصار عند التقسيم والثناء عليهم:

فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أُمّ الْعَلَاءِ [ ص 379 ] قَالَتْ صَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي الْقُرْعَةِ وَكَانَ فِي مَنْزِلِنَا حَتّى تُوُفّيَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمّا غَنِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَنِي النّضِيرِ دَعَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فَقَالَ اُدْعُ لِي قَوْمَك قَالَ ثَابِتٌ الْخَزْرَجَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَنْصَارَ كُلّهَا فَدَعَا لَهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَمَا صَنَعُوا بِالْمُهَاجِرِينَ وَإِنْزَالَهُمْ إيّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَثَرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمّ قَالَ إنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْت بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيّ مِنْ بَنِي النّضِيرِ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ السّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتهمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ . فَتَكَلّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللّهِ بَلْ تَقْسِمُهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَيَكُونُونَ فِي دُورِنَا كَمَا كَانُوا . وَنَادَتْ الْأَنْصَارُ : رَضِينَا وَسَلّمْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ فَقَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ ذَلِكَ الْفَيْءِ شَيْئًا ، إلّا رَجُلَيْنِ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ - سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ ، وَأَبَا دُجَانَةَ . وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ ، وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَهُمْ.
فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا تُخَمّسُ مَا أَصَبْت مِنْ بَنِي النّضِيرِ كَمَا خَمّسْت مَا أَصَبْت مِنْ بَدْرٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا أَجْعَلُ شَيْئًا جَعَلَهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِي دُونَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى الْآيَةُ كَهَيْئَةِ مَا وَقَعَ فِيهِ السّهْمَانِ لِلْمُسْلِمِينَ
[ ص 378 ] وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثُ صَفَايَا ، فَكَانَتْ بَنُو النّضِيرِ حَبْسًا لِنَوَائِبِهِ وَكَانَتْ فَدَكُ لِابْنِ السّبِيلِ وَكَانَتْ خَيْبَرُ قَدْ جَزّأَهَا ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ فَجُزْءَانِ لِلْمُهَاجِرِينَ وَجُزْءٌ كَانَ يُنْفَقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ فَإِنّ فَضْلَ رَدّهِ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ .
حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ عُمَرَ الْحَارِثِيّ ، عَنْ أَبِي عُفَيْرٍ قَالَ إنّمَا كَانَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ بَنِي النّضِيرِ كَانَتْ لَهُ خَالِصَةً فَأَعْطَى مَنْ أَعْطَى مِنْهَا وَحَبَسَ مَا حَبَسَ . وَكَانَ يَزْرَعُ تَحْتَ النّخْلِ زَرْعًا كَثِيرًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَدْخُلُ لَهُ مِنْهَا قُوتُ أَهْلِهِ سَنَةً مِنْ الشّعِيرِ وَالتّمْرِ لِأَزْوَاجِهِ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَمَا فَضَلَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسّلَاحِ وَإِنّهُ كَانَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْ ذَلِكَ السّلَاحُ الّذِي اُشْتُرِيَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ اسْتَعْمَلَ عَلَى أَمْوَالِ بَنِي النّضِيرِ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَرُبّمَا جَاءَ رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْبَاكُورَةِ مِنْهَا ، وَكَانَتْ صَدَقَاتُهُ مِنْهَا وَمِنْ أَمْوَالِ مُخَيْرِيقٍ . وَهِيَ سَبْعَةُ حَوَائِطَ - الْمِيثَبُ وَالصّافِيَةُ وَالدّلّالُ وَحُسْنَى ، وَبُرْقَةُ وَالْأَعْوَافُ وَمَشْرَبَةُ أُمّ إبْرَاهِيمَ ، وَكَانَتْ أُمّ إبْرَاهِيمَ تَكُون هُنَاكَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْتِيهَا هُنَاكَ .
وَقَالُوا : إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا تَحَوّلَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ إلَى الْمَدِينَةِ تَحَوّلَ أَصْحَابُهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَنَافَسَتْ فِيهِمْ الْأَنْصَارُ أَنْ يَنْزِلُوا عَلَيْهِمْ حَتّى اقْتَرَعُوا فِيهِمْ بِالسّهْمَانِ فَمَا نَزَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ إلّا بِقُرْعَةِ سَهْمٍ .
فَحَدّثَنِي مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أُمّ الْعَلَاءِ [ ص 379 ] قَالَتْ صَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي الْقُرْعَةِ وَكَانَ فِي مَنْزِلِنَا حَتّى تُوُفّيَ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ فِي دُورِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَمّا غَنِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَنِي النّضِيرِ دَعَا ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فَقَالَ اُدْعُ لِي قَوْمَك قَالَ ثَابِتٌ الْخَزْرَجَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَنْصَارَ كُلّهَا فَدَعَا لَهُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ ذَكَرَ الْأَنْصَارَ وَمَا صَنَعُوا بِالْمُهَاجِرِينَ وَإِنْزَالَهُمْ إيّاهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ وَأَثَرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ثُمّ قَالَ إنْ أَحْبَبْتُمْ قَسَمْت بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيّ مِنْ بَنِي النّضِيرِ وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ السّكْنَى فِي مَسَاكِنِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنْ أَحْبَبْتُمْ أَعْطَيْتهمْ وَخَرَجُوا مِنْ دُورِكُمْ . فَتَكَلّمَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللّهِ بَلْ تَقْسِمُهُ لِلْمُهَاجِرِينَ وَيَكُونُونَ فِي دُورِنَا كَمَا كَانُوا . وَنَادَتْ الْأَنْصَارُ : رَضِينَا وَسَلّمْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ فَقَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ ذَلِكَ الْفَيْءِ شَيْئًا ، إلّا رَجُلَيْنِ كَانَا مُحْتَاجَيْنِ - سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ ، وَأَبَا دُجَانَةَ . وَأَعْطَى سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ ، وَكَانَ سَيْفًا لَهُ ذِكْرٌ عِنْدَهُمْ.
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
جزاكم الله خيرا يا معشر الأنصار، فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال الغنوي:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت بنــا نعلنا في الوطئين فذلت
أبوا أن يملــــون ولو أن آمنــا تلاقى الذي يلقون منا لملت

أوامر بإرجاع أموال الأنصار:

وبعدما قسم النبي · أموال بني النضير على المهاجرين، أمرهم أن يعيدوا إلى الأنصار ما أخذوا منهم، لأنه لا حاجة لهم إليها، ولأنهم لم يمتلكوها، إنما أعارهم الأنصار لينتفعوا من ثمار حقولهم وزروعهم، ويقضوا حاجتهم.
ولم يُسلم من بني النضير في هذه الغزوة غير رجلين، وهما يامين بن عمير وأبو سعيد بن وهب رضي الله عنهما، فلم يتعرّض المسلمون لأموالهما، فاحتفظا بها. (من السيرة الحلبية وسيرة المصطفى ·).