{وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ
خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ
وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (105)}.
طريق
المغفرة من معصية ترك الجهاد، منهج متكامل للتوبة:
ما من مسلم غفل عن الجهاد بعد وجوبه،
وتخلف عنه في بعض مواقعه، فمقرر توبته ومغفرته وإصلاحه ما يلي:
(1) الندم على الخطأ والمعصية قبل كل
شيء، ثم التوبة إلى الله تعالى خاشعا متضرعا.
(2) أن يتصدق بجزء من ماله في سبيل الله
لرضاءه.
(3) أن يثق في الله بأنه يقبل التوبة
والصدقة عن عباده، وأنه توّاب رحيم، فالواجب المبادرة إلى التوبة للنجاة من
العذاب.
(4) مراقبة النفس في المستقبل، كي لا
تنحرف إلى الزيغ، وذلك بالمشاركة في الجهاد، وأن لا ينسى مثوله بين يدي ربه يوم
القيامة.
(ويطلب من أمير المؤمنين أو أمير
المجاهدين أن يدعو له إن أمكن، كما هو مترشح من الآية).
سبب
النزول:
قال القرطبي رحمه الله:
والجمهور أن الآية نزلت في شأن المتخلفين
عن غزوة تبوك، وكانوا ربطوا أنفسهم كما فعل أبو لبابة، وعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم
حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقهم ويرضى عنهم، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: (وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم رغبوا عني
وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين) فأنزل الله هذه الآية، فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى
الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم.
فلما أطلقوا قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا
التي خلفتنا عنك، فتصدق بها عنا وطهرنا واستغفر لنا.
فقال: (ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا)
فأنزل الله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} [ التوبة: 103 ] الآية.. (القرطبي)
فلما قُبلت توبتهم وصدقتهم، وصاروا
يتجولون بين عموم المسلمين، أضحى المنافقون الذين رُفض عذرهم ينتقدون المسلمين،
ففي الدر المنثور 3/275 :
فلما قُبلت توبة أولئك الذين ربطوا
أنفسهم بالأسطوانات، صاروا يخالطون المسلمين بالطريقة العادية، فأقلق ذلك
المنافقين حتى قالوا: بالأمس كانوا في الحالة التي كنا فيها، لم يكن أحد يتكلم
معهم، ولا يجالسهم، فكيف تغير حالهم بحيث ينبسط إليهم المسلمون، أما نحن فلا زالوا
يسخطوننا. فأنزل الله تعالى: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ
الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم}. (أنوار البيان)
يقبل الله التوبة عن عباده، وقد برهنوا
على صدقهم في التوبة وطاعتهم وعبوديتهم بربط أنفسهم بالأسطوانات وتقديم أموالهم
للصدقات، والله سميع عليم، يعلم التوبة الصادقة ويسمعها، فهو مطلع على ما في قلوب
الناس، حتى قبل منهم التوبة. أما المنافقون فلم يبرهنوا على طاعتهم وعبوديتهم بشيء
مما ذكرنا، ولم يخلصوا في توبتهم، وما أظهروا الندم على تخلفهم عن رسول الله ·.
أما أن النبي · لم يقبل التوبة عن المنافقين، وقد قبل عن المسلمين توبتهم، فذلك
لأن النبي · لم يكن يعمل شيئا إلا بأمر الله، ولم يفعل في حق إحدى الطائفتين إلا
بما أمره الله به، لأن الذي يقبل التوبة أو يرفضها هو الله سبحانه وتعالى.
قال صاحب المدارك:
«وهو للتخصيص أي أن ذلك ليس إلى رسول الله
·، إنما الله هو يقبل التوبة ويردها فاقصدوه بها ووجهوها إليه». (المدارك)
فمن رغب في التوبة فليقصد ربه، ويتوجه
إليه.
من كان
هؤلاء:
قال بعض أهل العلم: هم كانوا منافقين، لكن
نفاقهم لم يكن في العقيدة، بل كان في العمل، ثم تابوا إلى الله. ارجعوا إلى
القرطبي والتفسير الكبير. وعند جمهور المسلمين أنهم كانوا مسلمين صادقين في
إيمانهم، وما كانوا منافقين، تخلفوا عن رسول الله · لتهاونهم وتكاسلهم، وهذا أصح
القولين وأوفق بالآيات القرآنية. قال اللاهوري رحمه الله:
«فعند بعض المفسرين أن المراد منهم أولئك
المنافقين الذين يمكن العفو عنهم إن تابوا، إذ هم لا يُعادون الإسلام بقلوبهم.
وعند جمهور أهل العلم أن الآية نزلت فيمن تخلف عن رسول الله · يوم تبوك». (حاشية
اللاهوري)
الجهاد
عمل صالح وتركه عمل سيء:
قال الله تعالى: {خلطوا عملا صالحا وآخر
سيئا}.
قال النسفي رحمه الله:
عملهم الصالح هو أن شهدوا مع النبي ·
المعارك، أما عملهم غير الصالح فكان تخلفهم يوم تبوك.
{خلطوا عملا صالحا} خروجا إلى الجهاد
{وآخر سيئا} تخلفا عنه. (المدارك)
وقال الإمام أبو حيان عن الحسن البصري
أنه قال:
«أو خروجا إلى الجهاد قبل وتخلفاً عن
هذه، قاله الحسن وغيره». (البحر المحيط)
اتفق الجميع على أن المراد من العمل
السيء تخلفهم يوم تبوك، لكنهم اختلفوا في العمل الصالح، من التوبة وغيرها. (والله
أعلم بالصواب)
المحافظة
على هذه التوبة بالاستمرار في الجهاد:
قال الله تعالى في الآية 105: {وَقُلِ اعْمَلُوا
فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}.
قال شيخ الإسلام العلامة شبير أحمد
العثماني رحمه الله:
«أي إن التقصيرات السابقة تمحوها
التوبة، لكن الله يرى عملكم فيما تأتي من الأيام، التي تبرهن على مدى إخلاصكم في
التوبة، إن قصرتم في هذا الجهاد فإن في المستقبل معارك أخرى، مع الرسول أو أمراء
المسلمين، ويتم اختباركم فيها لمعرفة عملكم، وستُردون إلى عالم الغيب والشهادة
فينبئكم بما كنتم تعملون. فهذا التقرير كان وفق مزاج الشاه عبد العزيز رحمه الله،
لأنه أوفق بالسياق». (التفسير العثماني)
وقال التهانوي رحمه الله:
لاشك أنكم تعودون إلى الله، العارف بالظواهر
والبواطن، وسوف يخبركم عنها، ومن الأعمال السيئة التخلف عن الجهاد، فانتبهوا.
(بيان القرآن بتسهيل يسير)
وقال اللاهوري:
قل لهم : اعملوا وأصلحوا أعمالكم، ليرى
الله ورسوله والمؤمنون، فيثقوا فيكم. (حاشية اللاهوري)
لا
يقبل التوبة أحد إلا الله:
قال الله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ}.. أكّد على أن أحداً لا يقدر على
قبول التوبة سواه، سواء كان نبيا مرسلا أو ملكاً مقربا.. كما قال صاحب المدارك:
«أي أن ذلك ليس إلى رسول الله · إنما الله هو الذي يقبل التوبة». (المدارك)
الأمم الأمية وبعض طوائف النصارى جعلوا
قبول التوبة إلى الوسطاء من الرُهبان والقساوسة وغيرهم، وهنا القرآن يرد عليهم.
(التفسير الماجدي)
دعاء
إمام المسلمين:
«ومما قالوا: إن دعاء النبي لأمته،
ودعاء الإمام لرعيته، ودعاء الشيخ لتلاميذه السالكين، ودعاء الكبار للصغار موعود
بالقبول». (التفسير الماجدي)
دعوة
يحيط بها الأمل:
المسلمون الذين تخلفوا عن القيام بواجب
الجهاد في سبيل الله، ولم يشاركوا في التدريبات العسكرية، ولم يأخذوا عُدّتهم
للجهاد، ولا يزالون محرومين عن ذروة سنام الإسلام، يمكنهم العمل بالمنهج الذي ورد
في الآيات الأربع المذكورة حتى يغفر الله لهم، ويوفّقوا للجهاد الذي فيه عزتهم
وعظمتهم. قال أهل العلم من المفسرين: إن الآية 102 من أكثر الآيات أملاً لكل من
عصى ربه بالتخلف عن الجهاد، فباب التوبة مفتوح، وعليهم أن يبادروا إليه بالرجوع
والتوبة على ما فرّطوا في جَنب الله بالتهاون والتكاسل، يتوبوا خاشعين خاضعين
نادمين متصدقين، لتزكية الروح والنفس معا، وللتخلص من آثار المعاصي والتهاون،
ويقوموا بوضع ترتيبات مناسبة للقيام بهذه الشعيرة الإسلامية كغيرها من الصلاة
والزكاة والحج فيما تأتي من الأيام. (والله أعلم بالصواب)
فائدة:
كم كان عددهم ومن كانوا؟ وللإجابة
عليهما لاحظوا فيما يلي بعض عبارات أهل العلم:
وقال ابن عباس: نزلت في عشرة تخلفوا عن
غزوة تبوك، فأوثق سبعة منهم أنفسهم في سواري المسجد. وقال زيد بن أسلم: كانوا
ثمانية. وقيل: كانوا ستة. وقيل: خمسة. (القرطبي).
وقيل: ثلاثة : أبو لبابة بن عبد المنذر،
وأوس بن ثعلبة، ووديعة بن خذام الأنصاري. وقيل: نزلت في أبي لبابة وحده، ويبعد ذلك
من اللفظ {وآخرون} لأنه جمع. (البحر المحيط).
