بسم الله الرحمن الرحيم
{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم
وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر، إنّهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون}.
ملخص معاني الآية:
وإن نقضوا العهد (كما فعل بنو بكر، وهاجموا على
خزاعة، وأمدتهم قريش بالعتاد) ولم ينتهوا عن الكفر، بل ساروا على نهجهم في طعن
الإسلام وتعييبه والإساءة إليه، فاعلموا أنهم أئمة الكفر، لأن كثيرا من المتخلفين
عقليا يقلدونهم في أفعالهم وأقوالهم، فقاتلوا زعامة الكفر وقيادته، إذ لم يبق لهم
عهد ولا ميثاق لديكم، لعلهم ينتهون من شنائعهم وتهاورهم بعدما ينالون عقاباً
بأيديكم، أو يتوبوا عن كفرهم وشركهم ويُسلموا. (ملخص من التفسير العثماني)
المناسبة بين الآيات:
هنا بصدد ذكر مبررات قتال المشركين، وتحديد
غايته، أنه يستمر لحين يتوبون عن كفرهم، ثم أشار إلى السببين اللذين استدعيا وجوب
القتال على الفور: الأول: مخالفتهم للعهد. الثاني: إساءتهم للإسلام. ثم حدّد
للمجاهدين هدفا كبيرا، وقال: صوّبوا بنادقكم باتجاه زعامة الكفر وقيادته، حتى يؤدي
إلى قصم ظهر الكفر والشرك، ويعجزوا عن الغدر والخيانة، فينتهوا عن الكفر والشرك.
وأفضل طريق لكسر شوكة الكفر وشره: القتال في
سبيل الله، كما قال الله تعالى في موضع آخر: {فقاتل في سبيل الله، لا تُكلف إلا
نفسك وحرّض المؤمنين، عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. والله أشد بأسا وأشد
تنكيلا}. (النساء 84)
والمناسبة بين الآيات عند التهانوي رحمه الله
تعالى:
الآيات من 7 إلى 12 نزلت قبل فتح مكة، وفيها
تبشير بأن هؤلاء المشركين – الذين عاهدتم معهم
بالحديبية - سوف ينقضون عهدهم. وفي الآية
12 أشار إلى أنهم إن نقضوا العهد قاتلتموهم. ونزلت الآية 13 بعد نقض العهد، وفيها
أوامر إلى المسلمين بقتالهم. ارجع إلى بيان القرآن لمزيد من التفاصيل. (والله أعلم
بالصواب)
أمر في هذه الآية بقتال أئمة الكفر، فمن هم؟
سوف نتكلم عنهم فيما بعد، وقبله لاحظوا جانبا من شرح وبيان هذه الآية على لسان
المفسرين:
البيان القرطبي:
أشار القرطبي رحمه الله تعالى إلى النكات
المهمة التالية في شرح هذه الآية:
(1) استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل
كل من طعن في الدين. الخ. وللطعن في الدين معنيين: الأول: نسبة ما لا يليق بالدين
إليه. الثاني: الإساءة إلى حكم من أحكام الدين. ثم قال رحمه الله:
وقال ابن المنذر: أجمع عامة أهل العلم على أن
من سبّ النبي · عليه القتل.
(2) الأقوال في أئمة الكفر:
(1) والمراد صناديد قريش.. في قول بعض العلماء.
كأبي جهل وعتبة وشيبة وغيرهم.
يرد عليه القرطبي، ويشير إلى أن عند نزول هذه
الآية كان قد زال نظام الزعامة القبلية والعشائرية في قريش، لإسلام أكثرهم، ولتسوّل
بعضهم الأمان.
(2) من أقدم على نكث العهد والطعن في الدين
يكون أصلا ورأسا في الكفر.
(3) المشركون الذين أمدوا بني بكر على خزاعة،
إذ قال حذيفة رضي الله عنه يوما: لم يبق من أئمة الكفر اليوم سوى ثلاثة. (القرطبي)
تفسير ميسر:
قال صاحب أنوار البيان:
لم يقل «فقاتلوهم» إنما قال: {فقاتلوا أئمة
الكفر} بلفظ واضح صريح، أراد بهم كافة مشركي قريش، الذين تزعموا مشركي العرب، لا
يؤمنون ولا يسمحون غيرهم يؤمنون، تزعمتهم العرب واقتدت بهم، ينظرون إليهم، لا
يسلمون حتى يُسلموا. أو أراد بأئمة الكفر أبا جهل وسهيل بن عمرو وعكرمة بن أبي جهل
وأبا سفيان بن حرب وغيرهم، وهذا الذي اختاره ابن عباس. وقال: نزلت في زعماء قريش
من المشركين، الذين نقضوا العهد، وأشاروا بإخراج الرسول من مكة عند اجتماعهم بدار
الندوة. {إنهم لا اَيمان لهم} أي لا تُغني حلفهم. {لعلهم ينتهون} قاتلوهم حتى
ينتهوا عن طعن دينكم ومواجهتكم. وقيل: حتى ينتهوا عن كفرهم وشركهم. (معالم
التنزيل)
لقد نقض مشركوا مكة العهد، فلماذا ذكر نقض
العهد بأداة الشرط؟
قال صاحب روح المعاني: والمعنى أنهم إن ثبتوا
على النقض، ولم يؤمنوا فقاتلوهم. وقد ورد على قلبي أن المقصود منها الإشارة إلى كل
من يأتي بعدهم من المشركين، والمعنى أنه لاشك أن المشركين قد نقضوا العهد، فإن فعل
المشركون الذين يأتون بعدهم مثل ما فعل سلفهم، وطعنوا في دينكم، فقاتلوهم، وخاصة
الصناديد منهم، ولا عبرة بحلفهم وأيمانهم، إن فعلتم ذلك، امتنعوا عن الطعن ولا
يتشجعوا لقتالكم. (أنوار البيان)
شرح غريب الآية:
قال صاحب التفسير الماجدي:
{وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في
دينكم} الطعن في اللغة: الضرب بالسهم، وهذه الكلمة لا تُطلق على النقد الهادف
البنّاء، بل هو ما يشق القلب، ويجرحه. ليس الغرض من الطعن في الدين : التوصل إلى
حقيقة الشيء وإدراك كنهه، بل الغرض منه الإساءة والإزدراء بالدين، ومثل هذا
التطاول في قرننا النيّر هذا العشرين يعتبر
جريمة في جميع الأعراف والقوانين الدولية.
{فقاتلوا أئمة الكفر} حكم قتل الأئمة لا ينافي
قتل عامتهم، فالتصريح باسم الأئمة للاهتمام والتأكيد عليه، إذ بقتلهم ينقاد عامتهم
أو يتشتتون في الأرض.
أي قاتلوا الكفار (بحر) وخص الأئمة بالذكر
لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على البقاء على الكفر. (بحر)
تخصيصهم بالذكر لأن قتلهم أهم، لا لأنه لا يقتل
غيرهم. (روح)
ويبدو مما ذكرنا أن المعاهد إن خالف العهد بأي
شكل من الأشكال، وطعن في الدين، فقد نقض العهد.
فيه دلالة على أن أهل العهد متى خالفوا شيئاً
مما عوهدوا عليه، وطعنوا في ديننا، فقد نقضوا العهد. (الجصاص) (التفسير الماجدي).
من هم أئمة الكفر؟
لاشك أن أحكام القرآن الكريم غير مختصة بزمان
أو مكان، بل باقية ما بقيت السموات والأرض، ففي هذه الآية الكريمة أشار الله تعالى
إلى وصفة مهمة للحصانة من شر الكفار والمشركين وتطاولهم وتآمرهم، وهي محاربتهم
بالاستمرار، حتى يكفوا عن خبثهم وإساءتهم، وعسى أن يكفوا عن كفرهم، فيدخلوا في دين
الله.
قال القرطبي رحمه الله:
لعلهم ينتهون أي عن كفرهم وباطلهم، وأذيتهم
للمسلمين، وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم دفع ضررهم لينتهوا عن مقاتلتنا
ويدخلوا في ديننا. (القرطبي)
كلمة «لعل» في القرآن الكريم تدل على ما هو فوق
الرجاء، وهو اليقين. والمعنى: أنتم أيها المسلمون إن أردتم منع المشركين عن خبثهم
وإساءتهم وكيدهم، وأن ينتشر فيهم الإسلام على قدم وساق، فما عليكم إلا أن
تحاربوهم، به تبلغون غايتكم.
فهذه استراتيجية عسكرية مهمة، أشار إليها
القرآن، إذ الكفر والشرك ليس بفكر صادق يتمسكون به، إنما هناك مجموعة من الناس
يرغمون العوام على الكفر والشرك بفضل قوتهم وثراءهم ونفوذهم، وللعوام بعض المصالح
الدنيوية التي تدفعهم إلى التمسك بذيل الكفر، فإن تم القضاء على صناديد الكفر
والشرك، لم يجد عوامهم فيه ما يغريهم على البقاء، ثم يجدون مصالحهم الخاصة في خطر
بعد تعرضهم للهجوم على يد المسلمين. لا يحصل ذلك إلا إذا زالت الأغطية عن الأبصار،
وتأمل الناس بفكر عميق، فيجذبهم الإسلام إلى جنباته بدافعه الطبيعي، فيدخلون في
دين الله أفواجا.
كلمة {أئمة الكفر} تُشير إلى معنيين للقتال:
أحدهما: البحث عن أولئك الذين يقومون بتغذية المشركين بالفكر والإدارة. فالزعماء
الفكريون هم من يحثونهم على المحافظة بعقائدهم الباطلة، ويحرّضونهم على معاداة
الإسلام، ويزينون لهم عقائدهم الباطلة، ويزرعون في قلوبهم بذور العصبية الشركية.
أما الزعماء الإداريون فهم من يزوّدونهم بالمال، ويسعون إلى إقامة تحالف سياسي، ويسيّرون
شؤون الجيش وينظّمونها.
فلو تمَّ تنحية المذكورين عن الطريق، لأسرع
البقية إلى الإيمان والأمن، وكان النبي · يهتم بهذه الوصفة القرآنية في غزواته،
فقد تقلص عدد المقتولين إلى حدّ كبير في عهد الرسول ·، وارتفع عدد الداخلين في
الإسلام، حتى تمكن · من مشاهدة مشهد دخول الناس أفواجا في الإسلام بنفسه الشريفة،
كما قال تعالى: {يدخلون في دين الله أفواجاً}.
المعنى الثاني: أن يتم زحف المشركين بقوة بعدما
ظهرت منهم الخيانة والغدر والإساءة إلى الإسلام والطعن فيه، والشدّ عليهم بكل ما
يستطعيون بحيث يبلغون بها إلى رؤوس الكفر وصناديده، ولاشك أن الوصول إليهم ليس
بسهل، إذ دونهم حجاب وستار، وحرس وحجب، فلا يمكن البلوغ إليهم إلا بعد ضراوة
المعركة وحمي وطيسها، والمرور فوق الأشلاء، ليمكن تطهير الأرض من وجودهم القذر.
والمعنى خوض معركة قوية وحاسمة ضدهم بدلاً من المناوشات الآنية، واستئصال الكفر من
جذوره. لاحظوا ما يلي نص ما ذكره صاحب تفسير الفرقان:
«فإن لم ينتهوا بعدما عهدوا ووعدوا، ولم يقيموا
لأقوالهم وزنا، وندّدوا بالإسلام حيث حلّوا وارتحلوا، وطعنوا في المسلمين لدينهم،
ونادوا بأنه لا يمكن إحلال السلام في العالم ما لم يتم القضاء على المسلمين، فأفضل
طريق لعلاج مثل هؤلاء القضاء على زعمائهم ورؤساءهم وقادتهم، لأن تحقق الانتصار
والهزيمة يعتمد على الزعامة والقيادة، فهم المسئولون عن أفعال القوم وأعماله، وبعد
القضاء عليهم سوف تمتنع أممهم وشعوبهم عن أفعالها ونشاطاتها، ويعم الأمن
والاستقرار ربوع الأرض. أما في الحالات العامة فتسعى عقول القوم هؤلاء إلى
المحافظة على أنفسها بالبقاء في حصون مشيّدة، ولا تبرز في مواجهة مع العدو، ولا
سبيل للقضاء عليها إلا بخلق جو من الإبادة الجماعية التي تُفني القوم عن آخرهم،
وتقضي على الأخضر واليابس، وتطحن الجيد والردي، وتنتهي رؤوس الكفر والشرك، وهذا هو
الغرض الذي تسعى الأمم لتحقيقه من وراء الحرب، من تدمير آليات العدو وخيرة رجاله
وعقوله، التي تزوّدهم بالغذاء الروحي، وتدفعهم إلى الفساد والبغي. (تفسير الفرقان)
والآن نحتاج إلى وعي ملاحظة مهمة، وهي أن
الإسلام لا شك أنه أنشيء استناداً إلى عقيدة طبيعية وفكر واضح لا غموض فيه، فهو
ليس بحاجة إلى الاعتماد على الشتائم والسباب، وليس هذا حال الكفر والشرك، لذلك تتفكر
حول الوسائل التي تضمن لهم المحافظة على عقيدة المشركين وتقوّيهم عليها، فليجأون
إلى السبّ والشتم والطعن والتطاول والبذاءة، ولا يمتنعون عن طعن الإسلام والتطاول
على ذات الرسول ·، وتقبيح المسلمين، وهكذا يسعون إلى تقوية المشركين على عقيدتهم
الباطلة، وقد أمر النبي · بضرب أعناق ثمانية بالسيف من أمثال هؤلاء يوم فتح مكة،
وإن تعلّقوا بأستار الكعبة، وكان منهم ابن خطل المشرك البذي الذي ضُرب عنقه.
يجب على المسلمين المحافظة على دماء وأموال أهل
الذمة، وقد أكّد عليها الإسلام بشدة، أما إن طعن الذمي في الإسلام، وتطاول عليه،
فإنه لا يبقى ذميا، ويجب قتله. حيث قال النسفي رحمه الله:
«إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا، جاز
قتله، لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة».
(المدارك)
وقال الشاه عبد القادر في تفسير هذه الآية:
«لا ذمة لمن عاب في ديننا من أهل الذمة». (موضح
القرآن)
فالإسلام دين متكامل ومحفوظ عن العبث، وفيه
سعادة للبشرية جمعاء، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهو يعالج هذا
الموضوع بالحذر والحساسية، ولم تتحول بقية أديان العالم إلى لعبة بيد العابثين إلا
لتقصيرها بهذا الجانب، ففيها ضوابط لاحترام الشخص، ولا ضوابط لاحترام الدين نفسه،
لذلك لم تسلم من عبث العابثين، بل وتتعرض للتبديل كل يوم، أما الإسلام فدين الله
الصادق والأخير، ولم يأذن لأحد بالعبث بعظمته وقداسته، والمسلمون يدركون هذا
التوجيه القرآني، لذلك لا يقدرون على تحمّل شيء من التطاول على الإسلام أو رسول
الإسلام، من السهل لهم التضحية بالروح والغالي، ومن الصعب عليهم السماح لأحد
بازدراءه وشجبه، أسأل الله تعالى أن يقوّى حماس المسلمين هذا، إذ الجوهر الحقيقي
للبشرية حماية دين الله وقوانينه من العبث. والله أعلم بالصواب
نكتة مهمة:
ما من شخص يسيء إلى الإسلام أو رسوله، أو يتطاول
عليه أو يهذر، إلا وهو عميل للشيطان، فإن لم يُقتَلوا ولم يتعرضوا للشجب والتنديد
شجّعهم الشيطان ورفع معنوياتهم، حتى حسبوا أنفسهم مثقفين وزعماء دينيين، وسعوا إلى
إدخال أقاويلهم الكاذبة في الدين. تأملوا في اليهودية والنصرانية وغيرهما من
الأديان، تجدون فيها جانباً كبيراً من الأعمال الخرافية والتطاولات قد تحولت إلى
جزء من الدين، ولحماية الإسلام من أمثال هؤلاء الملعونين أصدر توجيهات بقتلهم
باعتبارهم أئمة الكفر، وقد سعى المسلمون إلى تطبيقها بكل حماس في كل عصر وزمان،
لذلك نلاحظ نتائجها الطيبة اليوم بحمد الله وفضله. (والله أعلم بالصواب)