{سورة التوبة مدنية، الآية : 14، 15}

بسم الله الرحمن الرحيم

{قاتلوهم يُعذّبهم الله بأيديكم ويُخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين. ويُذهب غيظ قلوبهم، ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم}.

ملخص معاني الآيتين:

(إن كنتم مؤمنين فأطيعوا الله، فيما يأمركم من قتال المشركين) فقاتلوهم (وأمره لا يخلو عن حكمة ومنفعة، وفيما يلي نلخص بعضها):
1- سوف يُعذّب الله الكفار بأيديكم، وفي السابق كان يُعذّب الأمم الكافرة بواسطة الملائكة وبأساليب متنوعة، وتشرَّف اليوم المجاهدون بهذه المرتبة العظيمة، إذ الآن يُعاقب الله أعداءه بأيديهم، فكأنّهم صاروا من آليات القدرة الإلهية.
2- وسوف يُذل الكافرين ويخذلهم، ويذل الكفر بذُلهم، ويؤدي إلى كسر شوكة الكفر، إذ هي العامل الأساسي في محنة المسلمين، لذلك إن وقعوا في الأسر والقيد، ضعف صوت الكفر والشرك، وانتشر الإسلام على قدم وساق.
3- وسوف يُغلب الله المؤمنين على الكافرين، بحيث ينصرهم بتأييده، وتتقوى بمشاهدته قلوب المؤمنين، وبعد غلبته ينفّذون حكم الله في الأرض، وهكذا تنعم الدنيا ببركات الجهاد، إذ في غلبة النظام الإسلامي وتنفيذه مصلحة الجميع.
4- ويشف الله صدور قوم مؤمنين، فتثلج قلوبهم، لأن قلب المؤمن يتحرك لإعلاء كلمة الله تعالى ورفعتها، ولغلبة الإسلام، ويتضايق إذا رأى الكفر والشرك آخذاً في القوة والازدهار. فببركة الجهاد عندما ينتصر الإسلام، وينهزم الكفر، يشف صدور قوم مؤمنين، إذ الجهاد دواء لكثير من أمراض القلب، كحب الدنيا، والجبن، والوهن، وسوء استخدام القوة الغاضبة.
5- ويُذهب الله غيظ قلوب المسلمين، حيث تتحول حسراتهم إلى مسرات، إذ المؤمن يشعر بنوع مضايقة في قلوبهم بما ينالون من المشركين من ظلم وجهد، ويجرح قلبهم كل هذر وهذيان بلسان الكفار، فلا يزول إلا عند تحقق الانتصار بالجهاد في سبيل الله.
6- وبفضل الجهاد يفتح الله باب التوبة على من يشاء من عباده، أما الكفار فيضطرون إلى المراجعة والتأمل بعدما يشاهدون خزيهم وندمهم، ويتغيرون من الداخل لمّا يشاهدون النصر يتوالى على المسلمين، فيُوفّق كثير منهم للتوبة إلى الله، كما أن المسلمين يستغفرون لذنوبهم ويتوبون ببركة الجهاد.
والله عليم حكيم، يعلم ما فيه مصلحتهم وما فيه ضررهم، يعلم أحوال الناس، ويتعامل معهم حسب الأصلح لهم.

تفسير مختصر وجامع:

أشار الله تعالى في هذه الآية الكريمة إلى الحكمة من مشروعية الجهاد، لقد تناول القرآن قصص الأمم الماضية التي اُهلكت بما كانت تعمل من الخبائث، تكفر بالله تعالى وتكذّب أنبياءه ولا تؤمن بهم، حتى يبعث الله عليهم عذاباً من السماء، فيهلكون عن آخرهم.
{فكلاً أخذنا بذنبه، فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم مَّن خسفنا به الأرض، ومنهم من أغرقنا، وما كان ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} (العنكبوت 40).
لاشك أن الأصناف المذكورة من العذاب كانت مؤلمة ومدمرة، فيها العبر والنصيحة للأجيال القادمة، لكن المُعذَّبين لم يكونوا يشاهدون ما وقع عليهم من الذلة والندامة، ولا إمكانية التوبة والرجوع إلى الله، أما الغرض الحقيقي من مشروعية الجهاد فهو إرادة الله في تعذيب المشركين والمكذّبين بأيدي عباده المؤمنين المخلصين، ففيه تعظيم المؤمنين وتذليل المجرمين، يبدو للعيان ما أيد الله المؤمنين من نصر، تثلج قلوبهم بعدما يشاهدون أولئك الذين يسخرون منهم ويُذلونهم ويعتدون عليهم كيف سقطوا على أيديهم ذليلين مهانين تحت رحمة سيف العدل، وكانوا قبل ذلك يقلقون بما يشاهدون من قوة الكقر وشوكته، والذين لا يقوون على أخذ الثأر من المعتدين لضعفهم ومسكنتهم، تستقر قلوبهم ببركة الجهاد في سبيل الله. ثم إنه الطريق الأنسب لمعاقبة المجرمين، إذ باب التوبة يظلّ مفتوحاً بعد تلقي العقوبات، وقد يندفع كثير منهم إلى التوبة إذعاناً للأمر الواقع، فقد وفع ذلك في عهد الرسول ·، إذ اعتنق العرب الإسلام خلال مدة يسيرة». (التفسير العثماني)

ملاحظات جهادية للإمام الرازي:

أشار الإمام الرازي رحمه الله تعالى إلى عدة ملاحظات جهادية في ثنايا تفسيره للآيتين الكريمتين... وفيما يلي نلخصها:

المناسبة:

فيما سبقت من الآيات أمر الله تعالى بالجهاد بقوله: {الا تُقاتلون قوما} وأعقبه بذكر سبعة أمور تُلزم الجهاد، ثم أعاد حكم الجهاد في هذه الآية، وأشار فيها إلى خمسة منافع للجهاد.
{يُعذبهم الله بأيديهم} سمّى الله تعالى بالعذاب الأذى الذي يلحق المشركين بأيدي المسلمين، وهو إما بالقتل وإما بالأسر، وإما بالسلب والنهب، فهذه كلها أنواع العذاب.
{ويُخزِهم} وهذا الخزي يلحقهم في الدنيا قبل الآخرة {وينصركم عليهم} وبفضل غلبة المسلمين يتقوون. فإن قيل: لا فرق باعتبار المعنى بين خزي المشركين وغلبة المسلمين، فلماذا تكرار مضمون واحد في الآية الكريمة؟ أجيب عنه أن من الممكن أن يواجه المشركون الخزي والندامة بأيدي المسلمين، لكن المسلمين لا يقدرون على الاستفادة من خيرات الغلبة بسبب آفة، لذلك أشار بلفظ {ينصركم عليهم} إلى أن المسلمين يستفيدون منها.
{ويشف صدور قوم مؤمنين} لحقت خزاعة أضرار بيد بني بكر وقريش، فأثلج قلوبهم بهزيمة بني بكر، ومن الطبيعي أن يشعر المرء بالفرح إذا وجد من كان يؤذيه ويصيبه بأذى مقهورا ومهانا ويغلبه عليه، فهذا يسر ويفرح، ويملأ قلبه بالقوة والعزيمة.
{ويُذهب غيظ قلوبهم} ففي النصر والفتح دواء لغيظ القلوب، وبنيله تندفع الهموم والغموم، فلا تكرار بين المضمونين.
جميع ما ذُكر في هذه الآية الكريمة من حالات، نالها المسلمون عقب فتح مكة، لذلك قيل انها نزلت بشأن فتح مكة. (ملخص التفسير الكبير)
أشار الإمام الرازي إلى معنيين لقوله تعالى: {ويتوبُ الله على من يشاء} الأول: أن المؤمن المجاهد بفضل جهاده ينال مرتبة التوبة إلى الله، ولها أسباب خمسة، ذكرها في التفسير الكبير، فليعد إليه طلبة العلم. وقيل: المراد من التوبة في الآية توبة الكفار والمشركين، كما قال القرطبي:
«والذين تاب عليهم مثل أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن أبي عمرو فإنهم أسلموا...» (القرطبي)
وفّقهم الله تعالى للتوبة، فأسلموا.

وهذه البشارة تدوم إلى يوم القيامة:

أورد الآلوسي رحمه الله سؤالا في روح المعاني، ثم ردّ عليه، فيما يلي لاحظوه بما كتبه صاحب أنوار البيان..

فائدة:

قد يتساءل هنا أحد أن فتح مكة وقع سنة ثمان من الهجرة، وسورة البراءة نزلت سنة تسع، فأي جهاد تُحرّض عليه هذه الآيات؟ أجاب عنه صاحب روح المعاني في صفحة 62/10، وقال: الآيات الأولية من سورة البراءة نزلت بعد فتح مكة، وهذه الآيات نزلت قبل الفتح.. إلى آخره. ويمكن أن نقول: فيها بشارة بالنصر والتأييد للمسلمين إلى يوم القيامة، بأنه سوف يدفع عن قلوبهم الغيظ بسبب أذى المشركين وخبثهم، وينصركم، ويخزي الكافرين، ويشف صدوركم بإنزال الهزيمة بحق الكفار. فكما اجتمعت في أهل مكة أمور استدعت قتالهم من الغدر والخيانة ونقض العهد، والطعن في الدين، والعزم على إخراج الرسول، والبدء في القتال. فمثل هذه الأمور قد تظهر من المشركين في المستقبل، ولا يكون الرسول بين أظهركم، لوفاته، ولا يأتي بعده رسول ولا نبي، فإن ظهرت مثل هذه الأمور، فقاتلوا المشركين حتى يُذلهم الله ويشفي صدوركم، والخطاب موجّه إلى أصحاب رسول الله ·، لكن العموم يشمل جميع المسلمين. (تفسير أنوار البيان)

ملاحظة:

قال النسفي رحمه الله:
«ولمّا وبّخهم على ترك القتال جرد لهم الأمر به بقوله {قاتلوهم} ووعدهم النصر ليثبت قلوبهم ويصحح نياتهم بقوله {يعذبهم الله بأيديكم}. (المدارك)

البيان اللاهوري:

قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويشف صدوركم، فقد عذّبوكم فانتقموا منهم، يُذهب الله غيظ المؤمنين، ويتوب على من يشاء منهم، فقد وُفّق أبو سفيان وعكرمة بن أبي جهل للإسلام. (حاشية اللاهوري)

ملحوظة:

ما ورد في هذه الآيات من أوضاع وظروف وفوائد، تحققت في عهده ·، وهي من دلائل نبوته ·، لذلك اعتبرها المفسرون ضمن المعجزات، ثم بعد ذلك ما من عصر من العصور جاهد فيه المسلمون وفق ما أمرهم الله تعالى إلا وتحققت لهم تلك الفوائد، وسوف يستمر القتال في سبيل الله مع جملة فوائده إلى قيام الساعة.
قال الآلوسي رحمه الله:
وقد أنجز الله تعالى جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون، فالآية من المعجزات لما فيها من الإخبار بالغيب، ووقع ما أخبر عنه. (روح المعاني)
وقال صاحب الكشاف:
وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها، فكان ذلك دليلا على صدق رسول الله · وصحة نبوته. (الكشاف)

نصر الله للمظلومين:

قال القرطبي رحمه الله:
وكانت خزاعة حلفاء النبي ·، فأنشد رجل من بني بكر يهجو النبي ·، فقال له خزاعي: إن عُدتَ له جدعتُ أنفك، فعاد له، فجدعه الخزاعي، فاشتعلت نار الحرب بين القبيلتين، وقُتل نفر من خزاعة، فقدم عمرو بن سالم مع نفر من خزاعة إلى النبي ·، وأخبره بما حصل بينهم وبين بني بكر، فلما سمع النبي · ما أخبره، دخل على ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقال: صُبّي عليّ الماء، فكان يغتسل ويقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب ثم تجهّز للقتال، وأمر بالتوجه نحو مكة حتى فتحها. (القرطبي)
أراد بلفظ {ويشف صدور قوم مؤمنين} مسلمي خزاعة، لأن فيهم عدد من المسلمين، وراجع البحر المحيط للمزيد.
وقد أورد صاحب الكشاف والآلوسي قول ابن عباس الآتي:
إنهم بطون من اليمن والسبا، قدموا مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيرا، فبعثوا إلى رسول الله · يشكون إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: «أبشروا فإن الفرج قريب».
والذين شفى الله صدورهم من قوم مؤمنين، هم من خزاعة، من اليمن والسباء، أناس مضطهدون، هم أول من تنطبق عليهم الآية، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمعناها ومفهومها يعم المؤمنين كلهم، كما قال ابن كثير:
وهذا عام في المؤمنين كلهم. (ابن كثير)
فهي تعم المسلمين جميعا، وبفضل الجهاد تبردت قلوب المؤمنين.

ضرورة إدخال السرور في قلوب المظلومين للنهوض بهم:

جاء في تفسير الفرقان:
تقدموا للجهاد في سبيل الله، تحصلون على الفوائد التالية:
لم يكن عدد المؤمنين بالأنبياء كبيراً حتى عهد موسى عليه السلام، فكانت طريقة تعذيب العصاة من الأمم بإنزال الآفات السماوية والأرضية، ثم صارت أعداد المسلمين تتزايد، فكان إنزال الهزيمة والخزي بهم بيد المؤمنين مكان الآفات السماوية، وصاروا ينشرون الحق والصدق بصفتهم خلفاء الله في الأرض. فإن قصّروا في ذلك {يستبدِلْ قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} تلاحقهم الذلة والخزي، فلما تقرر قتل المشركين، كان الأنسب قتلهم بأيدي المسلمين، لأنهم ذاقوا الويلات بأيدي المشركين، ومن طبيعة البشر أخذ الثأر من الظالم عند حصول القوة والمقدرة، فلا مسرة له بدونه، وإلا لأدت إلى ضعف معنوياته، وإهدار مواهبه وقُواه، فإن قتل المسلمون المشركين بأيديهم، دخل الفرح والسرور في قلوبهم، ويُقبلون على أعمالهم، كما قال تعالى: {وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون} وعملاً بالعدل الإلهي يُسرون عوضا عن المسرة التي حصلت للمشركين في أول الأمر، وينتج عنه دخول الطيبين الصالحين منهم في دين الله، لينالوا رحمة الله ومغفرته. (تفسير الفرقان)