بسم الله الرحمن الرحيم
{مَا كان للمشركين أن يعمروا مساجد
الله شاهدين على أنفسهم بالكفر. أولئك حبطت أعمالهم. وفي النار هم خالدون}.
ملخص معاني الآية:
لا عبرة بما يفعله المشركون تجاه المسجد الحرام
مع بقاءهم على الكفر والشرك علناً، وما كان لهم أن يديروا شئونه مع عقائدهم
الباطلة، ولا أن يصلوا فيه، إن أرادوا مُنعوا، حبطت أعمالهم الطيبة كلها، ويخلدون
في النار.
لأن:
الإيذان بالبراءة عنهم حق، وأنهم لا يقربون من
المسجد الحرام بعد عامهم هذا.
القتال معهم حق، لا يمكن التخلي عن قتالهم
نظراً لما يقدّمون إلى المسجد الحرام، والواجب تطهير المسجد من وجودهم الآثم.
الموضوع الأول للآية:
قال اللاهوري رحمه الله:
لا يتوقف الجهاد ضد المشركين إن كانوا يقومون
ببعض أعمال الخير، فلا يتوقف القتال ضد مشركي مكة بحجة أنهم يجاورون المسجد
الحرام. (حاشية اللاهوري)
وهذا هو الموضوع الذي اختاره صاحب تفسير
الفرقان، وقال:
ينبغي للمسلمين أن يستعدوا للجهاد إن أحاط بهم
الكفار، وهناك نفوس ضعيفة تسعى إلى التهرّب منه بحجج واهية، وسوف يشير إلى أن من
النفاق عدم أخذ عدة الجهاد، والتهرّب منه بحجج كاذبة، لذلك أدعو الإخوة المسلمين
اليوم إلى محاسبة أنفسهم ليدركوا مدى النفاق الذي تسرب فيهم، وفي الآيات التي
تليها يشير الله إلى عموم الأسباب التي يختلقها الناس للتهرب من الجهاد، ويكشف
الستار عن وجوه تلك الأعذار الكاذبة، ويؤكد على أنها واهية باطلة، وأنه ينبغي على
كل مسلم أن يستعد للجهاد. (تفسير الفرقان)
موضوع الآية الثاني:
الموضوع الثاني ذكره الإمام الرازي في التفسير
الكبير، ولخصه صاحب التفسير الحقاني في الكلمات التالية:
2- المشركون بمكة كانوا يعمرون المسجد الحرام
منذ القِدَم، ويقدّمون الماء إلى الحجاج أيام الحج، فكانوا يتفاخرون بها ويعتزون،
ويعدّونها أغلى من الإسلام، فكانوا يزعمون أن لهم منزلة عالية عند الله لجوارهم
البيت، وأنهم سدنته، فلا يحق للمسلمين أن يحاربوهم وينقضوا عهدهم، وقد صدّقهم
اليهود فيما قالوا، وقالوا: إن لكم منزلة رفيعة عند ربكم لما تقدمون إلى الحجيج من
خدمات جليلة، فنزلت هذه الآيات ردا عليهم. (الحقاني بتغيير يسير)
كما أن القرطبي قد صدّق الموضوع الذي ذكرناه
للآية بلفظه الآتي:
أراد ليس لهم الحج بعد ما نودي فيهم بالمنع عن
المسجد الحرام، وكانت أمور البيت كالسدانة والسقاية والرمادة إلى المشركين، فبيّن
أنهم ليسوا أهلا لذلك، بل أهله المؤمنون.
موضوع الآية الثالث:
وهو ما ذكره معظم المفسرين من القرطبي والتفسير
الكبير، وروح المعاني، وموضح القرآن:
إن العباس لما أسر وعيّر بالكفر وقطيعة الرحم،
قال تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا، فقال علي: ألكم محاسن؟ قال نعم، إنا لنعمر
المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج، ونفك العاني، فنزلت هذه الآية ردا عليه.
فيجب إذا على المسلمين تولي أحكام المساجد ومنع المشركين من دخولها. (القرطبي)
لأن الكعبة بناها إبراهيم عليه السلام، وهو أشد
من كان يعادي الأصنام، والكعبة أساسها التوحيد الخالص، فمن شهد بلسانه على الكفر
والشرك بإقراره وأعماله، وأنه لا يؤمن بالرسول الذي بعثه، فكيف إعماره للمساجد؟ فمن
أعمرها باعتبار الظاهر، بأن قدّم بعض الخدمات إليها باعتباره من سدنته، فإنه قد
أتى بما هو أعظم جريمة، ثم صلاتهم عند البيت ليس إلا مكاءً وتصدية، وهذا في الواقع
إن كان إعماراً للمسجد الحرام في نظرهم، فإنه ليس بإعمار عند الله تعالى.
قال صاحب معالم التنزيل 273/2:
«أي ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله
أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأن المساجد إنما تعمر لعبادة الله وحده، فمن كان
كافرا بالله، فليس من شأنه أن يعمرها.» (أنوار البيان)
شرح موجز وجامع للآية:
قال شيخ الإسلام ..
فيما مضى قال : لا يمكن ترك المسلمين على ما هم
عليه بدون اختبارهم وامتحانهم، في عزائم الأمور، من الجهاد وغيره، هل يثبتون فيها
أم يتزلزلون؟ وأنهم كيف يفضّلون جانب الله ورسوله على قراباتهم. وهنا أكّد على أن
مساجد الله تعالى لا يعمرها إلا من آمن بالله واليوم الآخر، بأن يوجد فيها بأعداد
كبيرة أولئك الذين يعبدونه كما يحب ويرضى، الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى
جنوبهم، ويحافظون على قداسة تلك المواضع، وكيف يمكن ذلك من الكفار والمشركين؟
لاحظوا أن المشركين يعتزون على أنهم سدنة الكعبة وحُجّابها، لكن من سدنتهم أنه قد
وضعوا فيها مئآت الأصنام، ينذرون لها، ومنهم من كان يطوف بالبيت عريانا، ولا يذكر
الله عند البيت إلا مكاء وتصدية، كما أنهم كانوا يمنعون الموحّدين من عباد الله
المخلصين منها، فهم أقصى ما يفعلون يسقون الحجيج، وينورون الحرم بالسراج، أو يكسون
الكعبة ستارا، ويقومون بإصلاح الكعبة وترميمها عند الحاجة، فكل هذه الأعمال كانت
خالية عن الروح، لأن المشرك لا يعرف ربه معرفة صحيحة، فكيف يمكن أن يتوجه في
أعماله وحسناته إلى الله الواحد الأحد، المنبع لكافة الكمالات، لذلك لا يُعتد بشيء
من أعماله وخيراته، وهذا الذي عبّر عنه بلفظ {حبطت أعمالهم} وباختصار.. إن الكفار
والمشركين الذين يشهدون بحالهم ومقالهم على كفرهم وشركهم لا يمكنهم أن يعمروا
مساجد الله تعميرا حقيقياً. (التفسير العثماني)
{أن يعمُرُوا} وضده الخراب، ومن ضمن إعمار المسجد
تشغيله بالصلاة فيه والذكر، الدخول فيه، وبناءه، وخدمته.
عمارة المسجد تكون بمعنيين، إحداهما زيارته
والكون فيه، والآخر بنيانه وتجديد ما التزم منه. (جصاص) . (التفسير الماجدي)
لا يمكن الثقة بالمشركين:
وفيه دلالة على أن حياة المشركين والكفار عبارة
عن سعي وراء الباطل، ولهف عليه، فإن التزموا ببعض الأعمال الصالحة، وتظاهروا بين الناس
في هيئة الملائكة، وأكّدوا على براءتهم الكاذبة للناس أنهم يكنّون كل الاحترام
لكافة أماكن العبادة، ولا يتدخلون في شؤون المسلمين الدينية، وأنهم يبذلون ما بوسعهم
لراحتهم، إن فعلوا ذلك فإن على المسلمين أن لا يثقوا في وعودهم الكاذبة، ولا
يمتنعوا عن محاربتهم، لأنهم لا يفعلون ما يفعلون إلا لأجل منع المسلمين من النهوض
ضدهم، لكي لا يحاربوهم، فالثقة بهم وبوعودهم هو بمثابة تدمير المسلمين والقضاء
عليهم، لأن المشركين لن يلتزموا بعهودهم». (التفسير الفرقان)
تفسير سهل لطلاب العلم:
«{ما كان للمشركين} ما صح لهم وما استقام {أن
يعمُروا مساجد الله} مسجد الله مكي وبصري، يعني المسجد الحرام، وإنما جمع في
القراءة بالجمع لأنه قبلة المساجد، فعامره كعامر جميع المساجد، ولأن كل بقعة منه
مسجدٌ أو أريد جنس المساجد، وإذا لم يصلحوا لأن يعمروا جنسها دخل تحت ذلك أن لا
يعمروا المسجد الحرام الذي هو صدر الجنس، وهو آكد. إذ طريقه طريق الكناية كما
تقول: فلان لا يقرأ كتاب الله، فإنه أنفى لقراءة القرآن من تصريحك بذلك. {شاهدين
على أنفسهم بالكفر} باعترافهم بعبادة الأصنام وهو حال من الواو في يعمروا، والمعنى
ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متضادين عمارة متعبدات الله مع الكفر بالله
وبعبادته. {أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون} دائمون». (المدارك)