{سورة البقرة مدنية، الآية 195}


{بسم الله الرحمن الرحيم}

{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}.

ملخص معاني الآية:

أنفقوا أموالكم في الجهاد في سبيل الله، ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة بالامتناع عن الإنفاق في الجهاد، وأحسنوا بكل شوق ورغبة ومن أعماق قلوبكم، إن الله يحب المحسنين.
أقوال أهل العلم:
{وأنفقوا في سبيل الله}..
(1) وسبيل الله هنا الجهاد. (القرطبي)
(2) ألا إن الأقرب في هذه الآية وقد تقدم ذكر الجهاد أنه يراد به الإنفاق في الجهاد.
(3) طاعته، الجهاد وغيره. (تفسير الجلالين)
{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}..
(1) بالإمساك عن النفقة في الجهاد، أو تركه، لأنه يُقوّي العدو عليكم. (تفسير الجلالين)
(2) إن الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد في سبيل الله. (القرطبي)
(3) أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم، فيستولي العدو عليهم، ويهلكهم، وكأنه قيل: إن كنت من رجال الدين، فأنفق مالك في سبيل الله، وفي طلب مرضاته، وإن كنت من رجال الدنيا، فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك.
(4) أي لا تتخلوا عن الجهاد، فإن فيه هلاككم. (موضح القرآن)
(5) ترك الجهاد خسارة وتهلكة، والتخلص من الجهاد بدفع الأموال لا يغنيكم، ادفعوا الأموال وتأهّبوا للقتال، واشهدوا المعارك، إن التخاذل والجبن والبخل في مناسبات الجهاد يورث الضعف فيكم، ويقوّي عدوكم، فقدّموا النفس والمال جميعا. (تفسير الفرقان)
(6) كل من لا ينفق ماله في الجهاد فإنه يُلقي بيديه إلى التهلكة، لأن على التولّي عن الجهاد ينتج ضياع الأمة بأكملها. (ترجمان القرآن)
(7) أنفقوا في سبيل الله أموالكم وأنفسكم، ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة، بأن تبخلوا من إنفاق أنفسكم وأموالكم وقت الحاجة إليها، فتضعفون، ويتقوّى عدوّكم، وفيه خسارة لكم. (بيان القرآن)
(8) زعم الأنصار أنهم قدّموا الكثير إلى الإسلام لمّا صاحبوا النبي ·، وشهدوا الجهاد، وقد التفّ به المهاجرون الآن بأعداد كبيرة، فهو في غنى عن جهادنا، والأفضل لنا الآن أن نهتم بالحرث والنسل، فنزلت هذه الآية، وأشارت إلى أن التخلّي عن الجهاد بمثابة إلقاء النفس في التهلكة. (حاشية اللاهوري رحمه الله)
(9) والمعنى أنفقوا أموالكم في طاعة الله، أي في الجهاد وغيره، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بترك الجهاد في سبيل الله، فإن ذلك يؤدّى إلى إضعافكم وتقوية أعدائكم. (التفسير العثماني)
(10) والخطاب بالأمة بأكملها هنا، والغرض منه الإشارة إلى أن أفرادها إن تركت الجهاد، وأمسكت عن الإنفاق على المجاهدين، ترتب عليه ضياع الأمة وتهلكتها. (التفسير الماجدي)

تحذير:

أردنا من وراء سرد الأقوال العشرة:
(1) توضيح معنى الآية ومرادها.
(2) توجيه أولئك الذين تخلوا عن الجهاد ودعمه بالمال، أنهم بفعلهم هذا يجلبون الدمار لأنفسهم وللأمة بأكملها.
(3) توجيه الأمة إلى أسباب هزيمتها وضياعها هذه الأيام.
(4) تناولتْ الأقوال العشرة التي سردناها العديد من النقاط الجهادية المهمة التي تتطلب دراسة عميقة لإدراكها، ولمعرفة أن الأمة في أشد الحاجة إليها اليوم.
(5) هذا هو التفسير الحقيقي لهذه الآية، أما الأمور الأخرى التي وردت في ثناياها فهي لا ترقى إلى مستوى المقصود.

نكتة رائعة:

كلام الله صادق، ولايخلو عن حكمة، سواء أدركها أحد أم لم يدركها. لاحظوا أن القتل في الجهاد يُعدّ موتاً عند العوام، لكن الله سبحانه وتعالى أخبر أنه حياة، كما في الآية 154 من سورة البقرة. وكذلك من تخلف عن الجهاد وقعد في بيته، زعم أنه استطاع انقاذ نفسه من الموت. وهنا يؤكّد الله تعالى على أنهم إنما هلكوا، ولم يخلّصوا أنفسهم من الموت. فمن أبصر بعين قلبه أدرك صدق كلام الله، وأما من أعمى الله قلبه، فعليه أن يقرأ التاريخ، ليعلم أن الذين ضحّوا بأرواحهم في الجهاد، إنما فازوا بالحياة الأبدية وسعادتها، وأن الذين تهاونوا وتجبنوا فقد خسروا واُهلكوا. نسأل الله أن يوفقنا لوعي الموضوع وإدراك أبعاده.

وجوه الارتباط بين الآيات:

اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الخ.. (التفسير الكبير)
(1) في الآيات السابقة أمر الله تعالى بالقتال، والقتال بحاجة إلى أدوات ومعدات، ولا يمكن التوصل إليها إلا بالمال. وقد يعجز الغني عن القتال، والقوي لا يجد المال، لذلك أمر الأغنياء بالإنفاق على من ليس لديه مال.
(2) في رواية أن الله تعالى لمّا أمر بالقتال في الآية السابقة قام رجل فقال: يا رسول الله ليس لديّ من المال ما يكفي لزادي وطعامي، فأمر النبي · الأغنياء بالإنفاق، وأوعدهم بالهلاك إن قصّروا فيه، فنزلت هذه الآية، وأيّدت رسول الله ·. (التفسير الكبير)

سبب النزول:

(1) وروى الترمذي عن أسلم أبي عمران فقال: كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه فقال يا أيها الناس إنما تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت فينا معاشر الأنصار لمّا أعزّ الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرّاً دون رسول الله · إن أموالنا قد ضاعت، وأن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه · يردّ عليه ما قلنا : {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو. فما زال أبو أيوب شاخصاً في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم. قال أبو عيسى : هذا حديث حسن غريب صحيح. (القرطبي)
(2) وقول ثالث قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وذلك أن رسول الله · لما أمر الناس بالخروج إلى الجهاد قام إليه أناس من الأعراب حاضرين بالمدينة، فقالوا بماذا نتجهز، فوالله ما لنا من زاد ولا يطعمنا أحد، فنزل قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله} يعني تصدقوا يا أهل الميسرة في سبيل الله يعني في طاعة الله. {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} يعني ولا تمسكوا بأيديكم عن الصدقة فتهلكوا.
أي لا تمسكوا عن النفقة على الضعفاء، فإنهم إن تخلفوا عنكم، غلبكم العدو فتهلكوا. (القرطبي)

نكتة:

لا يتيسّر الخروج في سبيل الله إلا بعد خروج حب المال من القلب، وكذلك إذا خرج المال من الجيب، هان الجهاد، وعكسه إن امتلأ القلب بحب المال تخاذل، وتغلب عليه العدو. وإن طمع المسلمون في ادخار المال، وارتفعت أنظار المقاتلين البواسل إلى من يزودهم بالمال والزاد، فلم يجدوا أحداً، أضرّ ذلك بالأمة بأكملها. تناولت هذه الآية منهجا متكاملا بشأن المال، وأمرت بالإنفاق في الجهاد، وتزكية النفوس من حب المال، والخروج في سبيل الله بكل رغبة ورهبة، وإليه الإشارة بلفظ {وأحسنوا}. والله أعلم بالصواب

نكتة:

لقد طبّق صحابة رسول الله · هذه الآية على أنفسهم، ما كانوا يمتلكون من المال إلا قليلاً، وقدّموه للجهاد، فجعل الله خزائن الروم وفارس تحت أقدامهم، وبات أثرياء العالم يدفعون إليهم الجزية. ولمّا أضحى المسلمون يهتمون بالمال، وظلوا يدخرونه في خزينتهم، اضطروا إلى دفع الجزية إلى الكفار على النفس التي يتنفسونها. انظروا .. هل هلك أولئك الذين ضحّوا بالغالي والنفيس في الجهاد، أم الذين يتهرّبون من الجهاد ماتوا وهم يتجرّعون كأس المذلة والعار؟

فائدة:

لقد تكلم القرطبي والرازي وغيرهم من المفسرين بشأن جواز الهجوم الفدائي تحت هذه الآية الكريمة، يُرجى مراجعة تفسير القرطبي والتفسير الكبير.

فائدة:

لقد وردت آراء أخرى في تفسير هذه الآية الكريمة، لاحظوها فيما يلي:
(1) المعنى: لا تلقوا بأيديكم بأن تتركوا النفقة في سبيل الله، وتخافوا العيلة، فيقول الرجل: ليس عندي ما أنفقه، وإلى هذا المعنى ذهب البخاري رحمه الله. (القرطبي)
(2) وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد. (القرطبي)
(3) الرجل يصيب الذنب فيلقي بيديه، ويقول: قد بالغت في المعاصي، ولا فائدة في التوبة، فييأس من الله، فينهمك بعد ذلك في المعاصي، فالهلاك اليأس من الله. (القرطبي) واستبعد الآلوسي في الروح هذا المعنى الأخير. والله تعالى أعلم. فهذه خمسة أقوال.
الآيات المماثلة:

لقد تناولت الآيات التالية مسألة الإنفاق في الجهاد، والوعيد على من أمسك يده عن الإنفاق في الجهاد:

البقرة: 215، 261، 262، 273، 274، التوبة 34، 35 محمد 38 الحديد 10.

دعاء:

اللهم وفّقنا للإنفاق في الجهاد في سبيلك طلباً لمرضاتك، وقنا من الهلاك على ترك الجهاد، وأكرمنا بمرتبة الإحسان عندك. آمين يا رب العالمين.