{سورة الفتح مدنية، الآية 4}

{بسم الله الرحمن الرحيم}

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4)}.

ملخص معاني الآية:

(1) لقد أنزل الله السكينة الخاصة في قلوب المؤمنين، ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، وليمكن لهم السمع والطاعة للرسول · فيما يأمرهم به، وليتيسر لهم محاربة الكفار والمشركين، وليترسخ عظمة الله وعظمة رسوله في قلوبهم، وليتمكن الجهاد وحكمته وفائدته من قلوبهم، حتي تيسر لهم محاربة المشركين وفتح مكة.
(2) إن جنود السماوات والأرض لله، لا يصعب عليه إهلاك أعدائه بإرسال ملك واحد، لكنه فرض الجهاد على المؤمنين، لأن فيه مصالح كثيرة ومنافع، وكان الله عليما حكيما.

السكينة نعمة كبيرة:

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}.
إن السكينة من إحدى النِعَم العظيمة التي تحتوي على فوائد جمّة، أنزلها على أصحاب رسوله · يوم الحديبية، تعالوا لنلقي نظرة عليها لنطلع على عظمتها ووسعتها، والسكينة: طمأنينة القلب.
لاحظوا فيما يلي أقوال أهل العلم:
(1) أراد بالسكينة طمأنينة القلب على كافة المصالح والحِكم التي وراء مشروعية الجهاد، فقد كانت قلوب أصحاب رسول الله · واعية مدركة لتلك الأسباب التي استدعت فرضية الجهاد، فواصلوا جهادهم حتى فتحوا مكة.
«لأن المعنى سكون النفس إلى الإيمان بالبصائر التي بها قاتلوا عن دين الله حتى فتحوا مكة». (أحكام القرآن للجصاص)
فَوَعْيُ أبعاد الجهاد وطمأنينة القلب بها والاستعداد له سُمّي السكينة.
(2) وقيل: هي العقل، ويقال له سكينة إذا سكن عن الميل إلى الشهوات وعن الرعب. (روح المعاني)
(3) وقيل هي الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله ·. (روح المعاني)
(4) وقيل السكينة ملك يسكّن قلب المؤمن ويؤمنه. (روح المعاني)
(5) وقيل هي من سكن إلى كذا إذا مال إليه، أي أنزل في قلوبهم السكون والميل إلى ما جاء به الرسول · من الشرائع. (روح المعاني)
(6) السكينة : الطمأنينة والسكون والراحة النفسية والحلم والصبر، وهذه هي المعاني التي أشار إليها أكثر المفسرين. قال الشاه عبد القادر رحمه الله تعالى:
أي يذعن لأمر الرسول · مع استقرار نفسي، فلا ينضم إلى المعاندين، وبه ازدادوا إيمانا. (موضح القرآن)
وفي التفسير العثماني:
أنزل السكينة..أي ثبتوا مع الرسول · في كافة المواقف رغم عدم موافقتها لطبائعهم، لم يصروا على خلافها تأييدا للكفار المعاندين، فزادوا إيمانا إلى إيمانهم، وتضاعفت مراتب إيقانهم وعرفانهم، ببيعتهم على الجهاد والموت برهنوا على استعدادهم للتضحي بأغلى ما يملكون، فهذه بعض مظاهر الإيمان التي بدت عليهم، ثم لمّا وافق النبي · على الصلح رغم معارضته لمشاعر المسلمين وأحاسيسهم، أذعنوا له وأطاعوا، فكان ذلك مظهرا إيمانيا آخر، فقد تمكنوا من التحكّم على عواطفهم وأحاسيسهم. (رضي الله عنهم رضوا عنه) (العثماني)
وفي التفسير الحقاني:
أنزل الله تعالى السكينة والقرار النفسي في قلوب المؤمنين، فزادوا إيمانا مع إيمانهم، والواقع إن الفتح والهزيمة تعتمدان على ثبات القلب وتزلزله، فكم من فئة كثيرة انهزمت من عصبة من رجال سكنت قلوبهم واستقرت نفوسهم، أما زيادة الإمكانيات المادية ونقصانها وكثرة العدد والعُدة وقلتها فأمور سطحية، وانطلاقا من هذه الآية الكريمة فقد أنزل الله في قلوب الصحابة السكينة التي بفضلها تمكنوا من القضاء على حكومات كسرى وقيصر العظيمة خلال فترة قياسية، ناهيك عن مئات الحكومات الصغيرة التي لقيت الفنا والزوال على أيديهم. (التفسير الحقاني)
وفي التفسير المظهري:
أراد بالسكينة الطمأنينة والثبات بما أمر الله به، أي وفّق المسلمين للثبات والاستقرار في الموقف، الذي تتردد فيه القلوب وتضطرب. (المظهري)
(7) معنى السكينة : الإيمان بما وعد الله، وتعظيم أحكام الله، والاستقامة على طاعته.
وقيل: السكينة الصبر على أمر الله والثقة بوعد الله والتعظيم لأمر الله. (المدارك)

فائدة:

كل هذه المعاني السبعة التي ذكرناها تساعد في فهم معنى السكينة، وبجمعها تنتج السكينة، وفي التفسير الكبير: السكينة هي اليقين، وذكر بعض المفسرين معاني أخرى للسكينة، فالسكينة نعمة عظيمة من نعم الله سبحانه وتعالى، وهي حالة نفسية قوية ولذيذة تشمل جميع ما أسلفناها نقلاً عن أهل العلم.
اللهم إنا نسألك السكينة، اللهم أنزل السكينة علينا، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد. آمين يا أرحم الراحمين.

ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم..

(1) كان الصحابة قبل صلح الحديبية واثقين بظهور الإسلام وغلبته في يوم من الأيام، لكن بعد وقعة الحديبية لمّا أنزل الله السكينة في قلوبهم زاد إيمانهم مع إيمانهم. (الحقاني)
(2) تواتر نزول أحكام الدين، فتسلسل إيمانهم بها، وهكذا زادوا إيمانا، وكان من ضمنها الجهاد.
«بشرائع الدين كلما نزل واحدة منها آمنوا بها، منها الجهاد». (تفسير الجلالين)
(3) وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول ما أتاهم به النبي · التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم. (روح المعاني)

جنود الله..

قال تعالى: {ولله جنود السماوات والأرض}.
(1) في بيان القرآن:
إن جنود السماوات والأرض من الملائكة والخلائق الآخرون كلهم لله، فلا يحتاج الله تعالى إلى جهادكم وقتالكم لإعلاء دينه وكلمته ولإنزال الهزيمة بالمشركين، إن شاء أرسل جنود الملائكة كما فعل يوم بدر، والأحزاب، وحنين. ولم يكن إرسالها في تلك الغزوات إلا لرفع معنويات المسلمين، وإلا لكان ملكا واحدا كافيا لإهلاك المشركين، لذلك لا تجبنوا إن كان العدو يزيدكم عدداً وعُدّة، ولا تتردوا في الإذعان لأمر الله ورسوله إن كان يأمركم بعدم القتال، تقولون: لقد انفلت الأعداء من أيدينا بسبب الصلح، ولم نقدر على معاقبتهم، فيا للأسف. (بيان القرآن بتسهيل يسير)
(2) أشار صاحب التفسير الحقاني إلى نكتة مهمة أخرى:
إن لله جنودا في السماوات والأرض، فلو شاء لأهلك الضالين القدامى والمعاندين العتاة والطغاة، لكنه فوض هذه المهمة إلى جنود الأرض، أنزل السكينة في قلوب الصحابة، وجعلهم جنوده في الأرض، فمن يطيق مجابهة جنود الله في الأرض؟
(3) قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
لو شاء الله لأرسل ملكا واحدا للقضاء عليهم، لكنه شرع الجهاد لعباده المؤمنين، لأن له حِكَما كثيرة ومصالح، وفيها حجج قوية وبراهين قاطعة وآيات بينات. لذلك قال تعالى: {وكان الله عليما حكيما} (تفسير ابن كثير).
(4) وقال الإمام أبو حيان رحمه الله:
ومن جنود الله الملائكة في السماء والغزاة في سبيل الله في الأرض. (البحر المحيط)
(5) ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما، لا يخفى عليه شيء من مكائد الأعداء وتدابيرهم، ومتى اقتضت حكمته أمر جنوده بالقتال، فإن نزلوا في ساحة القتال فلا طاقة لأحد بجنود الله. (معارف القرآن للكاندهلوي)
(6) أشار فيها إلى أن لله جنودا في السماوات والأرض، يفوّض إليها المهمات متى شاء، وفيه تحذير للمشركين من أن لا يحسبوا المسلمين ينقصهم العدد والعدة، فقد يوكل الله مهمة إهلاكهم إلى جنوده من الملائكة وغيرهم، وفيها تذكير للمسلمين بأن يتوكلوا على الله، فلله جنود السماوات والأرض، يسخرها لنصركم وتأييدكم وإهلاك أعدائكم. (أنوار البيان)
(7) ومن هنا أشار صاحب التفسير المظهري إلى نكتة رائعة:
{ولله جنود السماوات والأرض} أي لم يأمر المسلمين بالصلح يوم الحديبية لضعفهم، بل كان ذلك لِمَا كانت تقتضي حكمة الله وإرادته ومصلحته. (التفسير المظهري)
ذكر صاحب التفسير الكبير ثلاثة أقوال في تحديد مصداق قوله تعالى: {ولله جنود السماوات والأرض}، فمن شاء من طلاب العلم فليرجع إليه.

بشائر للصحابة:

الآيات السابقة اشتملت على البشارة بالفتح المبين إضافة إلى النِعم الأربعة التي اختصت بذات الرسول ·، وفي هذه الآية أشار إلى تلك البشائر والكرامات التي تختص بذات أصحابه رفقاء دربه، رضي الله تعالى عنهم أجمعين. (معارف القرآن للكاندهلوي)