بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)}.
ملخص معاني الآية:
(من ابن كثير)
أمر الله تعالى رسوله بجهاد الكفار
والمنافقين والتعامل معهم بالغلظة، وبالرفق واللين مع المؤمنين، ثم أخبره عن مصير
الكفار والمنافقين، وهو نار جهنم.
قال
علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
أرسل الله رسوله · بأربعة سيوف:
(1)
سيف للمشركين، كما قال الله تعالى: {فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
(التوبة 5).
(2) سيف لأهل الكتاب، كما قال
تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}.
(التوبة 29)
(3) سيف للمنافقين، كما قال
تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} (التوبة 73).
(4) سيف للمنشقين، كما قال
تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ}.
(الحجرات: 9)
دل ذلك على أن المنافقين يُقاتلون
بالسيف إن أعلنوا نفاقهم، وهذا ما قاله ابن جرير. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه في قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}
: يُجاهد المنافقون باليد، فإن لم
يستطيعوا فبوجه كالح.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أمر
الله بقتال الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، ومنع من اللين معهم. وقال ضحاك:
معنى الآية : «جاهد الكفار بالسيف واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم».
وهذا ما قاله مجاهد وربيع، (وهذا
الذي اختاره اللاهوري في الهامش، فقد قال: قاتل الكفار، ولا تتعامل مع المنافقين
إلا بالغلظة. (حاشية اللاهوري رحمه الله)
وقال الحسن البصري وقتادة: جهاد
المنافقين إقامة الحدود عليهم، وقيل: لا تضاد بين هذه الأقوال، لأن المنافقين يؤخذون
حسب أعمالهم، بالغلظة وغيرها. والله أعلم بالصواب (تفسير ابن كثير)
المنافقون الذين اُمر بقتالهم:
الآية 89 من سورة النساء تناولت
صنفا خاصا من المنافقين، الذين اُمر المسلمون بقتالهم، وهم : {فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}
(النساء 89).
ولفظ «القتال» في الآية على معناه
الحقيقي الشرعي عند بعض أهل العلم، وفيها أمر بقتال الكفار والمنافقين. كما قال
شيخ الإسلام رحمه الله:
«قال بعض أهل العلم: يقاتل
المنافقون بالسيف إن ظهر نفاقهم علنا». (التفسير العثماني)
لا قتال ضد المنافقين:
لا قتال ضد المنافقين عند أكثر
المفسرين، لأن النبي · لم يقاتلهم رغم اطلاعه عليهم. قال الإمام الرازي: دلت الآية
على لزوم قتال الكفار والمنافقين، لكن كيف يكون ذلك القتال؟ وقد توافرت الأدلة على
قتال المشركين مع السيف، أما المنافقين فبإظهار الحجة تارة، وبترك الرفق ثانيا،
وبالانتهار ثالثا. كما قال:
«فنقول: إن الآية تدل على وجوب
الجهاد مع الفريقين، فأما كيفية تلك المجاهدة فلفظ الآية لا يدل عليها، بل إنما
يعرف من دليل آخر، وإذا ثبت هذا فنقول: دلت الدلائل المنفصلة على المجاهدة مع
الكفار يجب أن تكون بالسيف، ومع المنافقين بإظهار الحجة تارة، وبترك الرفق ثانيا،
وبالانتهار ثالثا». (تفسير ابن كثير)
وله نظائر في القرآن الكريم، فقد
استُعملت كلمة واحدة لمعنَيَين مختلفين في وقت واحد، كما في قوله تعالى: {إن الله
وملائكته يصلون على النبي} (الأحزاب)
فلفظ «يصلون» في الآية في معنيين
مقصودَين في وقت واحد، لأن صلاة الله تختلف عن صلاة الملائكة. (والله أعلم
بالصواب)
نكتة عجيبة:
قال أهل العلم: ظاهر الآية الكريمة
يدل على وجوب قتال المنافقين بالسيف، لكن أدلة أخرى تشير إلى عدم الجهاد بالسيف مع
المنافقين.
قال الإمام الرازي رحمه الله:
«وفي الآية سؤال وهو أن الآية تدل
على وجوب مجاهدة المنافقين، وذلك غير جائز، فإن المنافق هو الذي يستر كفره وينكره
بلسانه، ومتى كان الأمر كذلك لم يجز محاربته ومجاهدته». (التفسير الكبير)
وقال الآلوسي رحمه الله:
«ظاهره يقتضي مقاتلة المنافقين وهم
غير مظهرين للكفر ولا نحكم بالظاهر». (روح المعاني)
والعبارتان المذكورتان تحملان نكتة
مهمة، وهي أن المفسرين أرادوا من الجهاد «القتال في سبيل الله» وهو المعنى
المتبادر منه، لذلك قالوا : إن ظاهر الآية تدل على وجوب قتال المنافقين. كما دلت
على أن المعنى الحقيقي والشرعي للجهاد هو «القتال في سبيل الله» ومعناه اللغوي هو:
بذل ما في الوسع والطاقة. لذلك قالوا: أراد بعض أهل العلم المعنى اللغوي للجهاد،
كما في الآيات المكية استُعملت كلمة الجهاد بالمعنى اللغوي. ويمكن أن يراد من
الجهاد المعنى الحقيقي والشرعي، لكن طريقة الجهاد مع الكفار يجب أن تكون مختلفة من
الجهاد مع المنافقين. (والله أعلم بالصواب)
نكتة:
أمر الله تعالى بقتال الكفار
والمنافقين، وفيها وعيد شديد للمنافقين وتحذير بأن كفركم يستدعي قتالكم مثل الكفار
والمشركين، كما أنها تحمل توجيها وإرشاداً للمسلمين بأن الأولى بالمنافقين القتال.
(والله أعلم بالصواب)
واغلُظ عليهم:
قال الإمام أبو حيان رحمه الله:
والمراد خشونة الكلام وتعجيل
الانتقام. (البحر المحيط)
وفي التفسير الماجدي:
الأمر بالغلظة مشترك بين الكفار
والمنافقين، والغلظة في اللغة ضد الرأفة، والمعنى: لا تتعاملوا معهم إلا بالغلظة
والخشونة.
وقال الراغب: «الغلظ نقيض الرأفة،
وهي شدة القلب» (القرطبي) الغلظة ضد الرقة غلظة أي خشونة. (راغب)
«وفي عصر الدجل والتلبيس هذا وجدت
كلمة «المروءة» رواجا يرفضه الإسلام، فهو لا يأمر أحبة الحق إلا بالمعاملة التي
تليق بهم، وكذلك مع الأعداء بما يستحقونه، إذ البشر بطبيعتهم يُطعمون الدواجن
والماشية ويربّونها، ويستعجلون في قتل الحيتان والعقارب بدون أي تردد، لأن «العقل»
لا يقتضي المعاملة السوية مع كافة الحيوانات على أساس حيوانيتها، وأن جميعها تستحق
المروءة المتعادلة». (التفسير الماجدي)
حكم القتال مستمر إلى يوم القيامة:
{جاهد الكفار} وهو لا يكون ضد
الكفار إلا بالقتال والحرب.
أمر بالجهاد مع الكفار بالسيف.
(القرطبي، عن ابن غباس) دلّت الدلائل المنفصلة على أن المجاهدة مع الكفار يجب أن
تكون بالسيف. (التفسير الكبير)
وقد عمل النبي · بحكم الجهاد
المذكور في الآية بواسطة القتال. أما حكم الجهاد نفسه (قتال الكفار) فباق في كل
عصر وزمان، إذا توفرت شروطه. (التفسير الماجدي)
نكتة مهمة:
الكفر والنفاق من أخبث الجرائم،
فإن شدّد المسلمون عليهم عرفوا أنهم على الخطإ، عسى أن يوفقوا للتوبة، لكن إن
عاملهم المسلمون باللين والرفق، وأكرموهم، وحسبوهم أفضل منهم لرقيهم وتقدمهم في
الأمور الدنيوية، ثبتوا على كفرهم واطمأنّوا به، وهذا يضرهم ويضر الناس أجمعين.
درس مهم:
لم يقاتل النبي · المنافقين في
عهده رغم مضايقاتهم وإيذاءهم، لحكمة أرادها الله، لأن المسلمين إن اشتغلوا بقتال
المنافقين في صفوفهم وديارهم لتوقف الجهاد مع المشركين، أو أدى إلى إضعافه وتمزق
المجتمع الإسلامي وتشتُّته، لذلك ركّز النبي · اهتماماته على جهاد المشركين، ولم
يستخدم السيف ضد المنافقين، وببركة هذه السياسة الحكيمة انتشر الإسلام في الشرق
والغرب في فترة قياسية.
لذلك نجد فيما ذكرنا درسا
للمجاهدين، بأن يشتغلوا بالجهاد ضد المشركين والكفار، ولا يُنهكوا قُواهم في
محاربة المنافقين، إذ في ضعف الكفار نهاية للنفاق، لكن للأسف الشديد زاد الاهتمام
اليوم بمحاربة النفاق، فزادت من مشاكل الأمة.
(والله المستعان وهو أعلم بالصواب)