{سورة التوبة مدنية، الآية 74}

بسم الله الرحمن الرحيم

{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.

ملخص معاني الآية:

 المنافقون يتحدثون فيما بينهم بما فيه كفر، وكان الذي يجري في محاوراتهم:
(1)      يكذبون بالوعود التي ذكرها الله تعالى لنبيه ·.
(2)      إن كان صادقا ما يقوله رسول الله · لصرنا أسوأ من الحُمر.
(3)       قال زعماءهم يوما: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منا الأذل. (أعاذنا الله منه)
(4) يتطاولون على ذات الرسول · وينتقدون الإسلام، فإذا قيل لهم : لم قلتم ذلك؟ حلفوا للمسلمين، وقالوا كنا نتفرج ونضحك ونلعب، وقد قالوا ما يخرجهم عن الإسلام بعدما أظهروه، وهموا بقتل الرسول · وإشعال نار الحرب بين المسلمين، لكن عزائمهم هذه لم تتحقق. ثم إنهم فعلوا ما فعلوا رغم ما منّ الله عليهم ورسوله، فإن تابوا كان خيرا لهم، وإن تمادوا ورفضوا التوبة فإن لهم عذابا أليما في الدنيا والآخرة، ولا يجدون لهم نصيرا.

تفسير يسير وجامع:

نلخص فيما يلي ما ذكره أهل العلم حول الآية الكريمة :
{يحلفون بالله ما قالوا} كان المنافقون يجلسون خلف المسلمين يتحدثون بما فيه إهانة الرسول والإسلام، كما سيأتي ذلك في سورة المنافقين، فإن قام مسلم بإبلاغ ما قاله المنافقون، كذّبوه وحلفوا أنهم ما قالوا شيئا، ففي الآية الكريمة يصدّق الله المؤمنين وأكّد على أن المنافقين قالوا كلمة الكفر، وقالوا بعد أن أسلموا كلاما لا يقوله إلا من كان كافرا.
{وهمّوا بما لم ينالوا} ولمّا كان النبي · قافلا من تبوك إلى المدينة، سار على طريق جبلي منفصلا عن بقية الجيش، فتثلم اثنا عشر منافقا وهموا أن يبسطوا أيديهم إليه بشر ويقذفوه وراء الجبل، ولم يكن معه · إلا حذيفة وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، أما عمار فقد طوّقوا به، أما حذيفة فقد انهال على نوقهم بالضرب حتى غيرت وجهتها، لكن حذيفة لم يعرفهم لِمَا تلثموا، ثم أخبر النبي حذيفة وعمارا عن أسماءهم ومساكنهم، ومنعهما من كشف ذلك على أحد. وإلى هذه القصة أشار الله تعالى بقوله: {وهموا بما لم ينالوا} بأن لم يتحقق لهم ما أرادوا بفضل الله تعالى. وقيل: بل الذي حدث هو أن في بعض المواطن تنازع جيش المسلمين فيما بينهم، حتى خافوا أن يتحول ذلك إلى نزاع قبلي أو عشائري، فقد دبّر المنافقون لنشر الشائعات والأفكار المضللة للإيقاع بين المهاجرين والأنصار، لكن مآربهم لم تتحقق، وأصلح النبي · بين المؤمنين، كما سيأتي في سورة المنافقين.
{وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله} بأن صاروا أثرياء وكثّر الله أموالهم ببركة دعاء رسول الله ·، كما خرجوا من وطأة الديون، وحصلوا على المغانم بفضل بقاءهم بين المسلمين، وتحسنت حقولهم وزروعهم لما أقام النبي · بينهم، فزادت ثمارها وحبوبها، وكان ذلك يقتضي الشكر والإيمان والإخلاص، لكنهم دبّروا المكايد والحيل، وشمّروا عن ساعدهم لإلحاق الأذى بالرسول والمؤمنين، فلو تابوا عن خبثهم، وانتهوا عن إنكار المعروف لكان خيراً لهم، وإلا فقد يعاقبهم بعقوبة في الدنيا والآخرة ليس لهم وال من دون الله في السموات والأرض. ففي بعض الروايات أن شخصا كان يُدعى «جلاّس» لمّا سمع هذه الآيات، تاب عن نفاقه، وأفنى عمره في خدمة الإسلام. (التفسير العثماني مع تسهيل)

فائدة:

قال الله تعالى: {يحلفون بالله ما قالوا..} ما هذا الذي ينكرونه؟ فيه أربعة أقوال مشهورة:
(1)       قول جلاس بن سويد الذي قال: إن كان ما يقوله محمد صحيحا فنحن أسوأ من الحُمُر.
(2)       منافق بعيون زرقاء شيطانية، وتطاول رفقاءه على الإسلام وأهله.
(3)       تشاورهم فيما بينهم لإلحاق الأذى برسول الله · أثناء عودتهم من تبوك.
(4)       ما قاله عبد الله بن أبي بن سلول عند عودة النبي ·: ليخرجن الأعز منا الأذل. (وللاطلاع على التفاصيل يُرجى مراجعة تفسير القرطبي والمدارك والتفسير الكبير وابن كثير، وبيان القرآن).
{ولقد قالوا كلمة الكفر} فما هذه كلمة الكفر؟ ذكر القرطبي فيها أربعة أقوال:
«قال النقاش تكذيبهم بما وعد الله من الفتح» (القرطبي)
{وهموا بما لم ينالوا} فما هذا الشيء الذي هموا بفعله؟ فيه أربعة أقوال:
(1)      أرادوا إلحاق الأذى برسول الله ·، لكنهم فشلوا.
(2)       أرادوا إشعال نار الحرب بين الأنصار والمهاجرين على أساس العصبية والقومية، لكنهم فشلوا.
(3)       قالوا: سيخرج الأعز من المدينة الأذل، لكنهم ما استطاعوا ذلك.
(4)       أرادوا تتويج عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين عند عودتهم من تبوك، وعقد الرئاسة له، لكنهم فشلوا. (البحر المحيط)

للمنافقين عذاب أليم في الدنيا:

{وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة}..
«لا شك أن الكفار والمنافقين في نار جهنم يوم القيامة، لكن لهم عذابا أليما في الدنيا، فما معناه؟ قال أهل العلم: أراد به مواجهتهم الخزي والعار مراراً، وضياع منزلتهم من قلوب المؤمنين، وسقوطهم من أعين الناس، وإحاطة الشدائد بهم وقت الموت. وبما أنهم ما قُتلوا في الدنيا، ولقوا من المسلمين معاملة حسنة بفضل إظهار الإسلام، لذلك ذكر أهل العلم التأويلات المذكورة للعذاب الأليم». (أنوار البيان)

لا ولي لهم ولا ناصر في الدنيا:

قال الله تعالى: {وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير}..
إن أخلص المنافقون نياتهم وما غدروا برسول الله ·، لَمَا خسروا شيئا في الدنيا، لكنهم حملوا أفكارا مثل «التنوير» و«التوسع» بدلاً من «الأصولية» و«الرجعية»، وسعوا إلى المحافظة على الروابط الحسنة مع الجميع، وارتبطوا بالمشركين لتحقيق الأمن والرفاهية الظاهرة، خالفوا الجهاد ليأمنوا، وادعوا الإسلام لكي لا يتم طردهم من المجتمع الإسلامي، ونتج على كل هذه وتلك عدم إخلاصهم لجهة واحدة، ولم يبق أحد يُنقذهم من الخزي والعار. أما المسلمون فقد آثروا التكاتف على التوسع، وانفصلوا عن الجميع ليرتبطوا مع رسول الله ·، فمكّنهم الله تعالى في الأرض، يحكمون عليها، وفي الآخرة جعل الجنة لهم. والله أعلم بالصواب