بسم الله الرحمن الرحيم
{كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا
فيكم إلاًّ ولا ذمة. يُرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم، وأكثرهم فاسقون}.
ملخص معاني الآية:
كيف تستحق عهودهم ومواثيقهم الرعاية عند الله
ورسوله، وكيف يمكن أن تدوم مودتكم ومحبتكم معهم؟ ذلك لأنهم إن غلبوا وتسلّطوا
عليكم، لا يرقبوا فيكم قرابةً ولا عهداً، يسعون إلى إرضاءكم بأفواههم، وقلوبهم لا
تريد الوفاء بعهودكم، يخافون من الجهاد، ويرغبون في إرضائكم باللسان دون القلب، إذ
هي مليئة بالحقد والعداوة، وأكثرهم فاسقون، يميلون إلى نقض العهد والميثاق.
كيف موالاتهم؟
قال اللاهوري رحمه الله:
كيف موالاتهم؟ فإنهم إن سيطروا عليكم، لا
يرقبوا في مؤمن قرابة ولا عهداً، وألحقوا بهم الأضرار بالوجوه كلها. (حاشية
اللاهوري رحمه الله)
لعل المسلمين يعقلون:
في هذه الآية الكريمة أشار الله تعالى إلى شرح
طبيعة المشركين العامة لعباده المسلمين، ومن يعلم أكثر من الله؟ الكفار ألدّ أعداء
الإسلام، ولا يألون جهداً في إلحاق الأذى بهم كلما تيسر لهم ذلك، ولا ينظرون في
مؤمن قرابته النسبية ولا عهوده، أما إن كانوا ضعفاء ولا حيلة لهم، طفقوا ينشدون الإنسانية
والأمن والوحدة وغيرها من الكلمات الرنانة، يسعون إلى عزل المسلمين وإضعافهم. لقد
حذّر القرآن من عداوات المشركين والكفار. وقد اتخذها صحابة رسول الله · نبراسا
لحياتهم، فلم يغترّوا ببسماتهم وكلماتهم المعسولة وحضاراتهم، لكن مسلمي اليوم
جعلوها وراء ظهورهم، وتغفلوا عن أعدائهم، فطفقوا يسقطون فيما حفروا لهم، ويضيع
دينهم ودنياهم.
قال صاحب أنوار البيان:
قال الله تعالى: {كيف وإن يظهروا عليكم لا
يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة} فهذا حالهم منذ القِدم، أما اليوم فيسعون إلى إخماد حماس
المسلمين للجهاد بشعارات مختلفة من القومية والوطنية والوحدة والتوحّد، ويعاهدونهم،
ثم إن ظفروا بهم، أو تسلّطوا عليهم، لا يرقبوا في مؤمن قرابة نسبية ولا عهدا ولا
ميثاقا، ويبيدونهم جماعيا. كما هذا حال تلك الجماعات التي تنتسب إلى الإسلام،
لكنها كافرة لعقيدتها وأفكارها المضللة، بل هي أنشئت لهدم الإسلام من داخله، وهم
يسعون إلى خداع المسلمين باسم الإسلام، ويناشدون الوحدة والتلاحم، وفي باطنهم لا
يألون جهدا في الإضرار بالإسلام والمسلمين، وكلما سنحت لهم الفرصة قتلوهم وأراقوا
دمائهم. فهذه وتيرتهم منذ قرون. (أنوار البيان)
الكفار يسعون إلى تهدئة المسلمين وتطمينهم
بكلامهم المعسول، فهيئة الأمم المتحدة والمنظمات العاملة في مجالات حقوق الإنسان
ليست إلا وجها من وجوه الكفار والمشركين الكثيرة التي تسعى إلى محو روح الجهاد من
قلوب المسلمين، أما أولئك الجنود الذين يقصفون البلاد الإسلامية ويزحفونها فهي في
قلوبهم وعيونهم، هؤلاء الجنود أذلوا البلاد الإسلامية ونهكوا حرماتها، ولا زالوا
ينتهكونها، وفي مثل هذه الظروف تسأل هذه الآية، وتقول: كيف توالونهم وكيف
تعاهدونهم؟
شر الكفر والشرك ونحسه:
لاحظوا العبارة التالية:
لا يوجد شيء في الدنيا أضر بخُلق الإنسان من
الشرك، لذلك أرجع القرآن الشر كله إليه، وبناء عليه لا يمكن الثقة بصاحبه، ثم في
هذه الآية أشار إلى مزيد من قبائحهم التي ظهرت بسبب تواجد الشرك فيهم، ومنها أنهم إن
يظهروا على المسلمين ويغلبوا عليهم، فإنهم لا يقيمون للقرابة النسبية والعهود والمواثيق
وزناً.
{إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء ويبسطوا إليكم
أيديهم وألسنتهم بالسوء} أي يسعون إلى إرضائكم بكلامهم وخُطبهم المعسولة، أما
قلوبهم فلميئة بالأحقاد والضغائن، ويجتهدون في القضاء عليكم كلما تيسر لهم ذلك.
(تفسير القرآن)
الأمم الإفرنجية اليوم:
قال صاحب التفسير الماجدي:
الكفار والمشركون في الجاهلية ما كانوا مختلفين
عن المثقفين والمتحضرين من الأمم الإفرنجية اليوم، فعهودهم ومواثيقهم كانت تابعة
لمصالحهم الآنية. (تفسير الفرقان)
وهذه من ميزات الإسلام أنه يوصي أهله بالوفاء
بالعهود في الظروف كلها، والإيفاء إليهم في جميع ما تعاهدتم معهم مع كامل الصدق
والإخلاص، كتب التاريخ محشوة بوقائعهم الجليلة في سبيل الوفاء بالعهود، أما الكفار
والمشركون فلا يلجأون إلى العهود إلا لمصالح آنية، وكلما سنحت لهم الفرصة ثاروا
عليهم ونقضوا ما كان بينهم من صلح وعهد، وألحقوا بهم أضراراً، يا ليت لو أدرك
المسلمون توجيهات القرآن، وعملوا بها، واستعادوا مجدهم الضائع، وللأسف الشديد إن
عدداً من المسلمين اتخذوا وظائفهم ورواتبهم عند المشركين غاية حياتهم. وإلى الله
المشتكي.
كيف توادون من أنكر الله
ورسوله؟
كتب العلامة ابن كثير رحمه الله العبارة الجزلية
التالية في تفسير الآية الكريمة:
«يقول تعالى محرّضا المؤمنين على معاداتهم،
والتبرّي منهم، ومبيّناً أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله تعالى،
وكفرهم برسول الله ·، ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم
يذروا ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة».
رُوي عن ابن عباس أن (الإلّ) بمعنى القرابة، و
(الذمة) بمعنى العهد. (ابن كثير)
أي إن جريمتهم الكبرى هي الإشراك بالله، ثم
إنكارهم برسالة محمد ·، ثم عداءهم للمسلمين، فالقرآن يشير إلى شناعتها وشدتها، يا
ليت لو اعتبرها المسلمون كذلك، فلا يوادوا أصحابها. لاحظوا مشركي اليوم، لقد
أقرّوا الجهاد الإسلامي إرهابا واعتبروه جريمة العصر الكبرى، فنهضوا لمحاربته،
فياليت المسلمين لو صاروا أوفياء لربهم ولرسولهم، واعتبروا كل من أنكر الله ورسوله
مجرما، لكانت الدنيا اليوم بغير وجهها التي عليه.
كيف فسّق المشركين؟
في آخر هذه الآية جاء: {وأكثرهم فاسقون} وتفصيل
ذلك أن ما من مشرك إلا وهو فاسق أي عاص لربه، لكن المراد من الفسق هنا نوع خاص
منه، وهو نقض العهد، لذلك أكّد على أن أكثرهم فاسقون، ومنهم من يحافظ عليه،
وبأسلوب القرآن المذكور الذي فيه جانب من الحذر والحيطة من عدم استخدام صيغة
العموم يمكن لنا استخلاص بعض الدروس والنصائح:
1- لا يترك جادة الحق والاستقامة عند مخالفة
قوم، فقد استثنى بعض المشركين من نقض العهد والفسق، ثم أطلق الفسق على عامتهم.
2- إن نقض العهد من الجرائم الشنيعة التي تتنفر
منها نفوس بعض المشركين، فضلاً عن المسلمين الذين يجب عليهم أن يبتعدوا من ريحه.
3- إن شرّ الدواب عند الله الكفار والمشركون،
ثم أفسقهم وأقبحهم من كان ينقض العهد، كما سبق ذلك في سورة الأنفال.
قال النسفي: {وأكثرهم فاسقون} ناقضون العهد.
(المدارك)
وقال القرطبي:
أي ناقضون العهد، وكل كافر فاسق ولكنه أراد
ههنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد. (القرطبي)
فائدة:
قال صاحب التفسير الحقاني:
مجرد الإشراك بالله يكفي لتدمير كافة محاسن
العبد الخُلقية والكمالية، إذ هو عبارة عن : الجهل بالله، وحب الدنيا، وترجيح
الذات، وعدم الاعتراف بفضل مالكه الحقيقي. (التفسير الحقاني)